فيما أشارت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية الي أن الولاياتالمتحدة تسعي الى تحسين وإصلاح علاقاتها بالسودان شريطة إنتهاج السودان نهجاً ديموقراطياً يراعي حقوق الانسان، كرّر المبعوث الامريكي الخاص الى السودان (برنستون ليمان) فى تصريحات حديثة مؤخراً ما سبق أن صرّح به القائم بالأعمال الامريكي بالخرطوم من أنَّ واشنطن لا تحبذ تغيير النظام الحاكم فى السودان بالقوة وعن طريق استخدام السلاح. وشدّد لميان فى ورقة قدمها بهذا الصدد بمعهد (أطلانطا) أن الوضع فى السودان لم يعد يحتمل أىّ قدر من العنف واستخدام السلاح وأنه يتعيَّن على الأحزاب والقوى السياسية السودانية الجلوس لإيجاد طريق للتغيير غير العنف. ويُعتبر هذا الموقف الامريكي بمثابة نقلة وإن كانت نقلة محدودة بدرجة ما فى مواقفها وتعاطيها مع الشأن السوداني لما يقارب العقدين من الزمان، ولهذا فإن السؤال الحيوي الذى يفرض نفسه بقوة فى هذا المنحي هو هل بدأت واشنطن بالفعل فى تغيير مواقفها تجاه السودان، وهل من الممكن أن تصبح المرحلة الحالية مقدمة لتغيير كبير فى هذا الصدد؟ بدءاً لابُد لنا من الإشارة الى أنّ واشنطن – فى الوقت الراهن – ليست لديها سياسة واضحة يمكن الإستناد عليها حيال تعاملها مع السودان. صحيح أنها جدّدت قبل أيام قلائل لائحتها الخاصة بالإرهاب وأبقت إسم السودان عليها بما يدل على أنها ما تزال تقف موقفاً معادياً تجاهه على الاقل لمدة عام مقبل هو العمر الإفتراضي المتكرر للائحة الارهاب. وصحيح أيضاً أن واشنطن – بالضرورة – تقف داعمة بحق وبغير حق لدولة جنوب السودان بطريقة عمياء وصمّاء تعرف أنها تضرّ بالسودان. وصحيح أيضاً أنها تدعم متمردين فى جنوب كردفان والنيل الازرق ودارفور ينشطون ضد الحكومة السودانية بما يعطي مؤشراً على موقف عدواني واضح حيال الحكومة السودانية. كل ذلك صحيح ولكن بالمقابل فإن هذه المواقف لا تبدو متسقة ومتجانسة مع إجمالي مواقفها حيال السودان، فهي التى رفعت جزئياً عقوباتها على السودان وسمحت لإحدي شركاتها الامريكية بتزويد مصنع سكر النيل الأبيض بتقنية تشغيل وهى التى قالت إنها تدعم برنامجاً مشتركاً لنزع السلاح بين دولتيّ السودان وجنوب السودان والتخلص من الأسلحة فى حدود الدولتين بما يحقق قدراً من الإستقرار والأمن. وهى التى ما تزال تناشد السودان -دبلوماسياً- وبعبارات أقل حدّة بضرورة حلحلة قضاياها الخلافية مع دولة جنوب السودان وفق تصريحات الوزيرة كلينتون فى جوبا مؤخراً. بل يمكن القول -دون تردد- ان واشنطن تدرك أن أفضل تعامل لها مع السودان سواء لصالح مصالحها الخاصة أو مصالح دولة الجنوب هو عبر الدبلوماسية والتفاوض وليس عبر أىّ وسائل عنف وضغط أخري ولو كانت هناك وسائلاً أخري لما توانت فى اللجوء اليها. إذن نحن أمام مشهد يصعب معه التقرير بشأن الطريقة التى إستقرت واشنطن على إتباعها فى تعاملها مع السودان ولهذا يمكن القول –إجابة على السؤال– أن واشنطن فى المرحلة المقبلة متجهة لا محالة بإتجاه تهدئة الأمور على الجبهة السودانية للدرجة التى يمكن أن نتصوّر معها أنها ماضية بإتجاه إخراج العنف من الملعب السوداني وإتاحة الفرصة لتفاعلات السياسة لتحقق ما هو مطلوب. ويحب ألاّ نسقط من حساباتنا فى هذا الصدد أننا فى عام إنتخابي أمريكي شديد الأثر والحساسية، وفى الوقت نفسه بمحاذاتنا معطيات عديدة أبرزها فشل العنف وفشل ما يسمي بالجبهة الثورية فى تحريك الساكن على الجبهات المختلفة مع صلابة الجبهة الداخلية السودانية التى لم تهتزّ حتى حين لجأت الحكومة السودانية لإتخاذ إجراءات اقتصادية قلَّ أن تنجو منها حكومة، فى ظل ضعف مريع تعاني منه هياكل الأحزاب والقوى السياسية السودانية لدرجة أن لميان إضطرّ لأن يدعوها لتجلس وتفكر فى وسيلة تغيير غير العنف! وفوق كل ذلك فإن دولة جنوب السودان الوليدة مع كامل إنشغالها بنزاعها مع السودان صارت هى الأخري آيلة للسقوط والإنهيار فى أية لحظة. أغلب الظن أن واشنطن أدركت ان السودان (جبل جليد) من الممكن أن يغرق (التايتانيك) التى تمخر بها عباب محيطه الهادر، ففضّلت تغيير الوجهة والسرعة وتحاشي الإصطدام تماماً .