مظاهرات وفرح وإعلام تكاد تلامس عنان السماء وابتسامات تمتد في مساحة الوطن القديم (من حلفا لنمولي ومن طوكر للجنينة). هكذا كانت هي تفاصيل الجمعة الخرطومية وعصرها الموسوم بأنه عصر السلام والاتفاق و(انه لا عودة للوراء ورامين قدام في علاقتنا مع دولة الجنوب من اجل العبور فوق متاهات الماضي وصناعة مستقبل بلا حروب). هكذا جاءت إفادة السيد رئيس الجمهورية وهو محاط بالإعلام من كل جانب ومتوشح بالسودنة زيا كامل البهاء تتكامل واللحظة فالدولتان أخيراً حسمتا جدل الصراع بداية رحلة البحث عن صياغة واقع جديد. تسع اتفاقيات في قضايا مختلفة يمكنك أن تحذف أبيي والميل 14 وملف الحدود وتبرر الخطوة بأنها رغبة من (البشير وسلفاكير) في العبور فوق متاهات البنادق والمضي في طريق جديد مرصوف بالثقة وتبادل المنافع والابتسامات العابرة فوق ضفة النهر وجوبا تشارك الخرطوم ذات احتفالها حين وضع سلفاكير قدميه في مطار الدولة السودانية الجديدة ما بعد الاستفتاء السلام..( الحكاية اجمل من تفاصيل الحكاية) الكل كاسب هكذا تبدو الحكاية في صورتها الاولي الا انه في المقابل ثمة خاسرين من ذات التوقيع علي السلام. حجب هي العبارة التي كست المكان المخصص في أخيرة الانتباهة لكل من رئيس منبر السلام العادل الطيب مصطفي ورئيس تحريرها الصادق الرزيقي كأولي التداعيات المعبرة عن الرافضين لتوقيع الاتفاق وصورة تعبر عن رفض في مقابل سعي حكومي من اجل تسوية الطريق حتي لا يتكرر ما حدث سابقاً في اتفاقيات انتهت الي مصاف الإلغاء أو عدم التنفيذ، إلا أن الرفض له ما يبرره وهو الموقف الواضح لمنبر السلام العادل من الجنوب وكل ما يتعلق به وان الانفصال كان حدثاً يستوجب ذبح الذبائح والهتاف بكرامة وسلامة بعد انتهاء عهد وحدة الدماء والدموع أو كما قالوا. إلا أن الموقف الراهن الآن يتطلب تساؤلاً يتعلق بمستقبل الاتفاق واستمرارية حالة الفرح الطاغي بتوقيعه من عدمه؟ بناء علي موقف المنبر الشاهر سيوف رفضه له لكن كثيراً من المراقبين في تحليلهم للموقف يعتبرون أن المنبر لن يكون له تأثيره الكبير علي مجريات الأمور خصوصاً إذا اعتبرنا أن الرسالة يتم إيصالها عبر الصحيفة الناطقة بلسانه وهو أمر يمكن السيطرة عليه وتوجيهه في الإطار العام وفي البال التوجيهات التي أطلقها رئيس الجمهورية من أديس وحتي قبل أن يصل الخرطوم مطالباً فيها وسائل الإعلام بدعم خيارات السلام والتبشير بالاتفاق عبر الوصول الي المعلومات من مصادرها وهي الرسالة الموجهة لفئة بعينها إذا ما قورنت بتناول الصحف الأخرى لقضايا العلاقات بين دولتي السودان. في معركة طويلة المدي مع الحكومة وأنهم سيلوكون مر الصمت الي حين أمر بدا واضحا في خطب جمعة ما بعد التوقيع التي رحبت بما تم التوصل إليه بين البلدين. (اتفاقية أديس أبابا لم تخاطب القضايا الإنسانية لجنوب كردفان والنيل الأزرق).. هكذا صرح الأمين العام للحركة الشعبية قطاع الشمال ياسر عرمان في أول ردة فعل له علي ما تم التوصل إليه وهو التصريح الذي يعني أن فرس القطاع يجري الآن في مضمار الخاسرين من التوقيع علي الاتفاقية هذا دون أن يتم التوغل في ثنايا اتفاقية الترتيبات الأمنية والتي تقوم علي ضرورة فك الارتباط بالفرقتين التاسعة والعاشرة وهو الاتفاق الذي من شأنه أن يمنع القطاع من كافة أشكال الدعم الممكن الحصول عليه من حكومة الجنوب يضاف لذلك أمر آخر يتعلق بالحدود (منزوعة السلاح) وهو ما يعني بالضرورة نزع السلاح المحمول في أيادي تلك القوي علي حدود الدولتين وبالتالي التقليل من تأثيرها علي ارض الواقع وهي ذات الاتفاقية التي دفعت بالبعض للقول بأن حكومة الجنوب قد باعت(الرفاق) مرة أخري إذا ما وضعنا في الاعتبار ما حدث في الانتخابات وعملية سحب المرشح الرئاسي مروراً بانتهاج خيار الانفصال وهو ما اعتبرت البيعة الأولي قبل أن يأتي التوقيع الأخير ليضع مسماراً آخر في نعش الرابط بين المجموعتين وان كان البعض يعتبر أن ثمة أشياء ربما يتم الترتيب لها من تحت (الموائد) إلا أن ما ينطبق علي القطاع ينطبق في اتجاه آخر علي (تحالف الجبهة الثورية) الذي سيفقد الكثير من ميزه التفضيلية بعد أن اتفقت الخرطوم وجوبا وهو الأمر الذي يعني أن اتفاق الترتيبات الأمنية هو الحبل الذي يلف الآن علي رقاب تلك المجموعات حين يقرا مع تصريح الرئيس البشير (أن الحدود مع الجنوب ستظل لتبادل المنافع لا لدعم المعارضة) وهو الحديث الذي يقود في اتجاه طرف آخر من أطراف المعادلة السودانية وهي المعارضة بالشمال وموقفها مما حدث في أديس. موقف الليل يمحوه النهار هكذا علق احدهم في التحول السريع من رفض قوي الإجماع الوطني لكل ما قد يأتي به اتفاق أديس بين دولتي السودان الي تسارع خطوات الموافقة عليه فردياً أو مؤسسياً عشية التوقيع مبررة أن الأمر يصب في مصلحة (شعب السودان) إلا أن آخرين يرون أن الخطوة الأخيرة قد لا تأتي في مصلحة المعارضة التي تري أن الاتفاق بين الدولتين من شأنه أن يقلل الخناق من حكومة الخرطوم باعتبار أن إعادة ضخ النفط من شأنه التقليل من حدة الأزمة الاقتصادية وبالتالي يخفض من حالة عدم الرضاء الشعبي علي الحكومة في ظل الأزمة الاقتصادية وهو الأمر الذي يقود الي إضعاف حراك الشارع وبالتالي تحويل أنشودة( الشعب يريد إسقاط النظام) الي متحف الانتظار الذي استطالت أيامه ولياليه. أعلن وفد السودان المفاوض في أديس أبابا أن اتفاق التعاون مع جنوب السودان سينقل البلدين من مرحلة "العداء والتوترات" الي خانة التكامل والاستقرار وتعزيز التجارة البينية وتسهيل حركة المواطنين في حدود مرنة وآمنة وتعزز اقتصاد البلدين ويدعم موقفهما المالي ويعجل بتحقيق سلام في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان وبدد الوفد مخاوف من انهيار الاتفاق مؤكداً أن "التوترات والحروب لا تعيقان السلام الحقيقي". إذا هي تلك المكاسب المنتظرة من الذي حدث في أديس مكسب آخر تنقله تلك العربات الناقلة لخير الشمال في اتجاه أبناء الوطن السابق في الجنوب وهم يستقبلونهم بابتسامات الزمن السمح والمستقبل المشرق وهو ما يقلل من التأثيرات الأخرى فلن تستطيع البندقية العبور من بين مسامات المصلحة المشتركة. إلا أن الأمر كله وبعيداً عن النظر الي الخاسرين في مضمار الاتفاق فإن المضي قدماَ في التنفيذ بعيداً عن مماحكات الماضي هي ما ينتظره الجميع شمالاً وجنوباً وفي بقية مساحات القارة والمنطقة. نقلا عن صحيفة ألوان 30/9/2012