حتى الآن وعلى العكس تماماً من توقعات الكثيرين فإن اتفاقية التعاون المشترك الموقعة بين السودان وجنوب السودان تمضي بسلاسة. فعلي صعيد إسباغ الشرعية على الاتفاقية فقد أجاز مجلس وزراء الدولتين – فى توقيت متقارب – بنود الاتفاقية، ولم تعترض عملية مناقشة وإجازة الاتفاقية فى البلدين أيّة عقبات موضوعية أو إجرائية . أما على صعيد البرلمانات فى البلدين فإن الاتفاقية قيد الدراسة والنقاش ولم يصاحب إيداعها مصاعباً أو إعترضات. وعلى صعيد اللجان المشتركة، فإن اللجنة الأمنية المختصة بالترتيبات الأمنية ذات الأهمية والأولوية القصوي إجتمعت وعملت على ترتيب خطواتها وأجندتها والقواعد التى على أساسها سوف تمضي الأمور. وفيما يلي عربون حسن النية، فإن الجانب السوداني سرعان ما فتح الباب واسعاً لتصدير الغذاء والاحتياجات الأساسية عبر الحدود الى دولة جنوب السودان وأصدر الرئيس البشير - شخصياً - توجهات فورية بفتح الحدود والمعابر لتتحرك السلع والبضائع والمواطنين بمرونة وسلاسة. كما عمل على التخلص من أىّ قوي جنوبية مناوئة للحكومة الجنوبية ومنعها من القيام بأيّ أنشطة معادية إنطلاقاً من الأراضي السودانية. أما الجانب الجنوبي فقد بدأ بطرد الحركات الدارفورية المسلحة، كما شرع فى الترتيب لفك ارتباطه عملياً ورسمياً عن قطاع الشمال. على صعيد آخر فإن الجانبين - كلٌ فيما يليه – أصدرا توجهاتهما للشركات العاملة فى مجال البترول للشروع فى عمليات تهيئة الآليات والمعدات لإستئناف نقله فى غضون ستة أو ثمانية أسابيع. أما على صعيد الاوضاع على الأرض فإن مضابط الطرفين – على الحدود المشتركة – لم تسجل أية خروقات أو عدائيات بأيّ درجة كانت منذ توقيع الاتفاق فى السابع والعشرين من سبتمبر الماضي. هذه المؤشرات الايجابية بالطبع لهي أبلغ دلالة على ان ما تم التوصل اليه بين الجانبين وأسفرت عنه قمة الرئيسين كير والبشير لم يكن يهدف فقط الى حل النزاع الناشب بقدر ما كان حجر أساس لبناء قوي ومتين للعلاقات بين البلدين. وما من شك ان الفرق شاسع وكبير للغاية ما بين الحرص فقط على حل القضايا الخلافية فى حدود ما هو موجود من نزاع، وما بين الرغبة المتأججة بتحويل ماضي العداء والتنازع الى حاضر ومستقبل من العلاقات الحميمة والتبادل الصادق للمنافع والمصالح بقدر من الجدية والاخلاص. لقد جاءت الأمور علي هذا النحو ولم تظهر بعد خلافات بشأن التطبيق لأن طبيعة الاتفاق نفسها تكفلت بالحيلولة دون إمكانية الاختلاف أو التنازع. من جانب آخر فإن الطرفين وقد أدركا حجم الذين يقفون موقفاً معارضاً – كلٌ بأسبابه – عزما هذه المرة ودوناً عن كل المرات والاتفاقات السابقة على ضرورة تفويت الفرصة تماماً للصائدين فى المياه العكرة أو أصحاب الاجندات الخاصة. ويكفي فى هذا الصدد ان الحركة الشعبية سعت بجدية للتخلص من حمولة قطاع الشمال الزائدة دون أيّ تردد، وبدت شديدة الاقتناع بإستحالة اللعب فى ملعبين بذات الكفاءة والقدرة والكُلفة. وهكذا، على أية حال رسمت المعطيات السياسية حدوداً طبيعية للدولتين فى خارطة علاقاتهما، وفرضت هذه المعطيات نفسها بقوة. غير أن هذا كله لا يعني أن الاختلاف بين الجانبين فى تطبيق الاتفاقية غير متوقع فهذه طبيعة الاشياء، ومن المستحيل ألا يقع الخلاف فى هذه النقطة أو تلك، ولكن الذى يحول دون أن يتحول الخلاف الى تنازع وتهديد بإنهيار الاتفاقية بكاملها أن الرئيسين -كير والبشير- أوجداً خطاً ساخناً ومباشراً محاط بموجهات سياسية بالغة الدقة والحساسية من الصعب أن يؤثر فيها أيّ مؤثر.