أيّاً كان المدي الذى إستطاعت قمة الرئيسين، البشير وكير أن تصل اليه لحلحلة القضايا الخلافية العالقة بين الدولتين فإن من الضروري إمعان النظر فى (نصوص إفتراضية أخري) بعيداً عن النصوص التى جري التوقيع عليها والبنود والسطور البالغة التفاصيل التى عادة ما تحفل بها الأوراق الرسمية؛ فالاتفاقيات الدولية لا تقف عند النصوص والصياغات وحدها، وإنما تستمد روحها وحيويتها من النصوص الموازية غير المكتوبة. وليس معني استطاعة القمة إحداث اختراق حيال القضايا المطروحة ان الأزمة بين البلدين قد إنقضت، وأن النزاع قد إنتهي، علي العكس تماماً، فقد بدأت مرحلة جديدة من الخلافات، والمنازعات إلاّ أنها هذه المرّة تدور جميعها حول تأويل وتفسير نصوص وبنود المعاهدة الموقع عليها. ولهذ ا فإن أول ما يستلزم التدقيق فيه وقراءته بإمعان بجانب هذه النصوص، هو أن يوطن الجانبين نفسيهما على المعالجة الثنائية التى لا تتجاوز عاصمتيّ الدولتين، ذلك ان المشوار طويل للغاية والمعاهدة تتصل بصميم استراتيجية كل دولة ونهوضها سياسياً واقتصادياً وأمنياً بالتكامل مع الدولة الاخري. كما أن المعاهدة ليست مرتبطة بحكومة من الحكومتين هنا وهناك وإنما هى تعبير عن إرادة الشعبين ومصالحهما المشتركة بعيداً عن الحكومات والأنظمة السياسية التى لا تُقاس أعمارها بأعمار الدول والشعوب. إنَّ أىّ إخلال بالمعاهدة – بسوء نية أو حسن نية – ينبغي أن يجد المعالجة فى إطار الطرفين قدر الإمكان، وهو ما يتيح مجالاً أرحب لجوار آمن ومستدام. الأمر الثاني ان الحكومة الجنوبية - وبصرف النظر عن نصوص المعاهدة - مطالبة بفك إرتباطها الحاسم والصريح بأىّ مجموعة سياسية أو مسلحة فى السودان. وهذا ليس ضرورياً فقط لأغراض الحفاظ على ما تحقق من مكاسب لصالح الدولتين، ولكن أيضاً حتي تستقيم المعادلة بين الجانبين تماماً، وبوسع جوبا ان تمعن النظر جيداً فى نموذج العلاقات السودانية التشادية، حين تكفل البروتوكول الأمني الموقع بين الخرطوم وأنجمينا وحراسة الحدود عن إستقرار أمني تام وإنسياب فى علاقات البلدين تجاوز عامه الثاني ويمضي بسلاسة واضطراد. طبيعة العلاقات الدولية حتى بعيداً عن مقتضيات القانون الدولي تستلزم حسن الجوار، وإنشغال كل دولة بقضاياها الداخلية وحدها. جوبا فى حاجة شديدة للغاية لهذه النصوص غير المكتوبة لأنها لم تدرك بعد بسبب حداثة التجربة ونعومة الأظافر ان هذه النقطة هى النقطة الذهبية الغالية على الاطلاق، سواءً كانت تتطلع الى نهضة حقيقية أو حتى البقاء فقط فى السلطة، فالدواء هذا يصلح للإثنين معاً. الأمر الثالث ان الخرطوم هى من فتحت باب الاختراق بقبولها لخارطة أمبيكي مع الاحتفاظ بوضعية خاصة للميل 14. ولولا هذه النقطة الحساسة بالذات لما حدث أىّ اختراق وستكون الخرطوم مع ذلك محقة. ومن ثم فإن هذا الموقف السوداني المرن يستحق أن تزنه جوبا بميزان عادل جاد كبادرة حسن نية تمثل أهمية قصوي فى مسيرة علاقات الطرفين؛ وعلى ذلك فإن أىّ تحركات جنوبية فى المستقبل لإيذاء السودان بأىّ شكل من الاشكال سيكون ثمنه باهظاً للغاية. الأمر الرابع ان قضايا الحدود والملف الأمني هى قضايا يومية متجددة وممتدة لكونها تتصل بتحركات المواطنين ومصالحهم وعلاقاتهم، وهى أمور تستلزم أكبر قدر من افتراض حسن النية لأنّ من الطبيعي ان تقع أحدث، وأن تُرتكَب جرائم ومخالفات، وليس بالضرورة فى هذه الحالة ان تكون الحكومات طرفاً فيما يحدث. يتطلب الأمر قدراً كبيراً من الكياسة والحصافة، وميزان خاص جداً لوزن مثل هذه الأمور. وعلى أيّة حال إنطفأت الأنوار فى أديس عقب الاختراق الكبير وإنفضَّ السامر لتنتقل الحياة من مهرجانات الكاميرات والاضاءة والموائد والأوراق الممهورة بالتوقيعات، الى ساحة التنفيذ الفعليّ وحيز الواقع، وتلك هي المهمّة الأكثر صعوبة وعناء.