على الرغم من ان اجتماعات اللجنة الأمنية السودانية الجنوبية التى إنعقدت وإنفضّت الاسبوع الماضي بالعاصمة الجنوبية جوبا لم تسفر عن شيء ذي بال أو تُحسب ضمن خانة الايجاب بشأن تنفيذ إتفاق التعاون المشترك بين جوباوالخرطوم؛ إلاّ أنَّ من الظلم القول ان المحادثات التى أجريت بهذا الصدد إنهارت أو فشلت. ليس دقيقاً على الاطلاق وصف رفع جلسات الاجتماعات بأنها فشلت أو وصلت الى طريق مسدود. ذلك أن من الطبيعي – فى أيّ إتفاق بين دولتين – أن تثور خلافات عند تنفيذه سواء لأسباب ترجع لطبيعة الاتفاق نفسه وحساسية نصوصه وبنوده، أو لطبيعة المشكل وتعقيداته، خاصةً اذا كنا حيال مشكل كالذي هو ناشب بين دولتين إنفصلتا حديثاً والانفصال هو نفسه تم لأسباب ترجع لتعقيدات سياسة فيما بينهما لم يكن لها من سبيل للحل سوي الانفصال. ونحن هنا لا نبحث عن مبررات لهذا الطرف أو ذاك، فالطرفين – وعلى حدٍ سواء – فى مسيس الحاجة بدرجة واحدة لتنفيذ الاتفاق ورؤية ثمراته على الأرض بأسرع فرصة. فلو كانت الخرطوم فى حاجة ماسّة الى عودة النفط ليتدفق فى أنابيب التصدير لمعالجة بعض الخلل فى الموازنة العامة للدولة، فإن جوبا هى الأخرى أشد حاجة لعودة تدفق النفط لأنها تعتمد عليه فى موازنتها بما يجاوز ال95%، بل لا نغالي إن قلنا ان النفط بالنسبة لجوبا مسألة حياة أو موت فى ظل إستحالة إيجاد بدائل أخرى مماثلة إلاّ بعد نحو من عامين وبكلفة عالية هى كلفة إنشاء خط ناقل جديد تحيط به مصاعب ومصائب! ولو كانت الخرطوم فى حاجة الى استقرار وهدوء أمنيّ تام على حدودها الجنوبية – خاصة ولايتيّ النيل الأزرق وجنوب كردفان – فإن جوبا حتى ولو تظاهرت بأنها غير متأثرة أمنياً، فهي بحاجة ماسة جداً لإغلاق هذا الملف الشائك الذى من الممكن ان يتطور الى إنفجار بداخلها لأنه يشغلها تماماً عن مواصلة مسيرة نهضتها ولن تجني من وراءه شيئاً استراتيجياً مفيداً، لأنَّ حملة السلاح فى تلك المناطق – ولو وفرت لهم سلاحاً يوازي سلاح الجيش الشعبي الجنوبي بكامله – فلن يغيِّر من واقع الخرطوم شيئاً، وقد جرّبت الحركة الشعبية ذلك لما يجاوز العشرين عاماً، إمتلكت خلالها مختلف أنواع السلاح الغربي والشرقي وتلقّت الدعم من أصقاع عديدة من العالم ولم تستطع تهديد جوبا نفسها دعك من الخرطوم! وهكذا، فإن حاجة الطرفين لإنفاذ اتفاق التعاون المشترك تبدو أكبر من تباطوء هنا، أو عراقيل هناك. بل إن جوبا لديها أسباباً إضافية تجعلها الأكثر حاجة لإنفاذ الاتفاق فهناك أزمة مثلث أبيي بكل ما يحويه من تعقيدات لا يمكن تجاوزها إلاّ بترسيخ التعاون والتفاهم المشترك بين الجانبين. ليس هنالك مجالاً على الاطلاق لتصوُّر حلول لأزمة أبيي والحدود وبقية القضايا العالقة الأخرى بمعزل عن العلاقات الجيدة بين البلدين، فالتاريخ والجغرافيا هى معطيات حاضرة بقوة لدى حسابات كل طرف ولا فكاك منها. لكل ذلك فإن ما جرى فى إجتماعات جوبا الأخيرة كان مجرد خلاف فى الرؤى بشأن تطبيق بنود الاتفاق، ليس لعدم رغبة جوبا فى التنفيذ أو تعسف الخرطوم فى طريقة التنفيذ، ولكن لأنّ التنفيذ على الأرض لديه إستحقاقاته ولديه تداعياته وآثاره الاستراتيجية، وسيكون صعباً على جوبا -كأمر طبيعى- التخلي عن تكتيك دعم ما يسمى بقطاع الشمال دون أن تشعر بقدر من الآلام والهواجس، كما سيكون صعباً عليها أن تطوي ملف النزاع الحدودي بما قد يبدو أنها تنازلات قدمتها على الارض ولا سبيل للتراجع عنها بكل ما قد يرتبه ذلك من إنعكاسات داخلية لدي القيادة فى جوبا. بإختصار، هو مجرد تردّد طبيعي لمن يسلك سبيل السياسة السلمية والتعامل مع الواقع بعدما كان عالي السقف فى المواقف، عالي الصوت فى قاعة المفاوضات، فقد حانت ساعة الجد، وتلك لعمري هي ساعة الجد الحقيقية التى على الطرف الجنوبي التعامل معها بواقعية.