فقط لأغراض أخذ العظة والإعتبار إستفادةً من الدرس الماضي، فإن الأزمة الناشبة الآن بين الأممالمتحدة ودولة جنوب السودان تبدو ملفتة للنظر. وبالطبع ليس ذلك من زاوية (الشماتة السياسية) -اذا جازالتعبير- ولا من قبيل الكيد السياسي، ففي النهاية فإن الدولة الجنوبية دولة أخرى قائمة بذاتها لسنا فى حاجة للخوض فى مشاكلها وقضاياها لأن ذلك – ببساطة – لا يهمنا كثيراً. غير أن الأزمة الناشبة بين الطرفين تستوقفنا من عدد من الزاويا؛ ففي زاوية أولى، فإن الأزمة تسبّبت فيها موظفة أممية قامت السلطات الجنوبية بإبعادها مؤخراً لأسباب تقول جوبا أنها تتصل بإعداد هذه الموظفة لتقارير (غير حقيقية) و (غير اخلاقية) حول حقوق الانسان فى دولة جنوب السودان. الأممالمتحدة من جانبها تقول ان جوبا لم توضح أسباباً موضوعية ولم تعط دليلاً كافياً على سوء التصرف المهني للموظفة. ويُستخلص من ذلك فى تقديرنا ان الصدام المبكر الذى وقع بين الطرفين بدا كمقدمة بالغة السوء لمسلسل مطول من الأزمات المتشابهة، خاصة وأن الأمر يتصل بشأن ملف حقوق الانسان، الأمر الذى يشير الى ان جوبا فيما يبدو تقف فى مفترق طرق، هو ذاته مفترق الطرق الذى تم دفع السودان من قبل للوقوف قبالته، وظلت الجهات الدولية المعنية تلاحقه وما تزال. وخلاصة هذا الجانب من الموضوع ان جوبا خرجت فيما يبدو من (شهر العسل) الدولي وبات يتعيّن عليها التعامل مع الأمور الدولية بواقعية. الزاوية الثانية، ان الملف الحقوقي الذى ترتاد جوبا مضماره لأول مرة، ملف شاق، فيه وعثاء كثيرة، وأشواك دامية وهي بهذه المثابة لن تجد سنداً من واشنطن أو من غيرها، ذلك -ببساطة- لأنّ هذه هى الاوراق الدولية المعدة بعناية للإستخدام لمشوار مطول منهك. الزاوية الثالثة، ان قادة الحركة الشعبية الذين يديرون الأمور فى جوبا الآن وحينما كانوا جزءاً من الحكومة السودانية قبل الانفصال، لم يكونوا يعبئون كثيراً بهذا المضمار، كانوا يستهينون بالملف الحقوقيّ لدرجة الاستهتار، ويكفي ان الدكتور لام أكول الذى كان وزير اً للخارجية بإسم الحركة الشعبية فى حكومة الشراكة الأولى عقب نيفاشا 2005 واجه إنتقادات حادة من قبل حركته وصلت الى درجة إقصاؤه من المنصب وخروجه بعدها من الحركة نفسها، لا لشيء سوي لأنه كان يعمل بذهن سياسي موضوعي ويدفع عن السودان غائلة الاتهامات الحقوقية. كان غلاة قادة الحركة الشعبية حينها يرون فى أكول مدافعاً (أكثر من اللازم) عن بلد ليست لهم فيه مصلحة. هذا المسلك من جانب الحركة الشعبية كان سببه – كما وضح جلياً الآن – سوء النية الممزوج بالجهل الفاضح بطبيعة التعامل السياسي فى المضمار الدولي ونظرات القوى الدولي لمثل هذه الاوراق . وأخيراً فإن جوبا التى بدت فى عجلة من أمرها وفى حيرة من أمرها فى ذات الوقت تعاملت بغلظة شديدة مع الموظفة الأممية حين أدركت – بعد فوات الأوان – أن تحقيقات الأممالمتحدة بشأن قضايا حقوق الانسان لا حدود لها، وبعدما أدركت –أيضاً بعد فوات الأوان– أن واشنطن وإن كانت قريبة منها وربما حليفة لها لم تفعل شيئاً لترد عنها غائلة التوغل داخل حرم الجيش الشعبي بكل ما يمثله من تصرفات خارج الأطر القانونية المرعية، وخارج حدود المعقول من قبل موظفة أممية. كانت جوبا تتوقع وقوف الموظفة الأممية خارج سياج الجيش الشعبي، وبعيداً جداً عن ميدانه الأحمر! ولكن لا واشنطن كانت عابئة بذلك، ولا نيويورك تحلّت بالمجاملة السياسية!