من المؤكد أنّ جهات عدة قد أعادت قراءة الواقع الماثل أمامها بطريقة مختلفة وأعادت حساباتها أكثر من مرة وهى تراقب المشهد العاصف لاستقبال السودانيين لرئيسهم بعد رحلة استشفائه الى العاصمة السعودية الرياض، عشية الاربعاء الماضي. المؤتمر الوطني صاحب الأغلبية والذى يقوده الرئيس البشير، أعادَ قراءة المشهد مرات ومرات بعد أن إحتدمت بالداخل منذ أسابيع نقاشات وأحاديث حول الخليفة المنتظر للرئيس البشير ليس بسبب إعتلاله الصحي، ولكن منذ أن اعلن قبل العلة الصحية عن عدم رغبته فى الترشح لدورة قادمة. الوطني وجدَ دون شك، ما يغلق به الباب الآن أمام هذه الاحاديث الجهيرة والهامسة معاً على الاقل داخل أروقته وفى الممرات وبين الدهاليز. الرئيس البشير نفسه، والذى كان عازماً على الترجل فى الدورة الرئاسية المقبلة، بدا له المشهد أكبر من مجرد رئيس مطالب بمزيد من العطاء، فالآصرة السياسية النبيلة التى جمعت بينه وبين مواطنيه فيما يبدو تخطت دائرة الخيارات الإختيارات، ومن المؤكد أنَّ نداء الواجب عند الرجل صار أعلى صوتاً من الرغبة أو الظروف أو فرضية إفساح المجال لآخرين من حواء السودان الولود! المواطنين السودانيين هم أيضاً الذين ربما واتت بعضهم الرغبة فى التغيير ومنح الرجل السانحة لكي يستظل بإستراحة مطلوبة بحكم رهق السنين وغوائل الأيام، تخطوا ذاك السياج، عشية الاربعاء الماضية وأعادوا التأكيد على أنَّ البشير هو الخيار الأوحد فى المرحلة الحالية. المواطنين السودانيين وهم يتدافعون بتلك الحميمة الجارفة التى فاقت قدرات الحرس الرئاسي، ورجال المراسم ومسئولي البروتوكل، لم يكونوا بالطبع يستقبلون رئيساً عائداً من رحلة استشفاء أثارت قلقهم، فقط كانوا فى الواقع يتحسّسون الرئيس بأيديهم ليتأكدوا أنه ما يزال بذات تلك الحيوية والنبض السوداني الحار، لكي يواصل معهم مسيرة مطولة لا يكون له الخيار وحده، ولا هم وحدهم فى فصم عُرى الرابطة، وإنما يكون الخيار لظروف أكبر منهما الإثنين. قوى المعارضة السودانية هى الأخري – إن كانت تعرف ألف باء السياسة – كان محتّماً عليها أن تعيد حساباتها بصورة أدق، فهى كانت أمام مشهد من المستحيل ان تنساه، وفى السياسة ما من مقياس لقياس القبول السياسي مثل المقياس الجماهيري. ليس من السهل على أيّ جهة مهما كانت ان تسوق سوداني واحد سوق السوام الى شئ لا يرغب فيه، واذا ساقته فليس من السهل ان تجعله يعبر بكل تلك الحميمية وذلك الصدق! ليس مطلوباً من قوى المعارضة السودانية أن تفسر وتؤول ما حدث فى مطار الخرطوم عشية الاربعاء، وعلى طول الطريق الممتد من داخل الصالة الرئاسية الى بيت الضيافة؛ ولكن عليها أن تقرّ بأنها حيال مشهد سياسي صادق وناطق. جماهير سدّت الافق والطرقات لتضع يدها على يد رئيسها، وكانت وجوه هذه الجماهير متنوعة وأوضح ما فيها أنها أبعد ما تكون عن منسوبي الوطني. كما أن إرتعاش وحرارة التحايا وتهدُّج صوتها كله يشي بأنها تصافح رئيسها وتفرح بعودته معافىً من صميم قلبها. لو إستطاعت قوى المعارضة السودانية (أخذ عينة سياسية) من هذا المشهد وأرسلته الى أفضل معمل فحص سياسي فى طول وعرض العالم لمعرفة سر الإرتباط الحميم الذى ظل يتجدد بين الرئيس البشير ومواطنيه لكفاها ذلك شر الفشل المتلاحق، والرهق السياسي الماحق!