ظروف سياسية واقتصادية عديدة حاصرت وما تزال تحاصر جوبا جراء تكتيكها غير المجدي بالمماحكة والمماطلة فى إنفاذ اتفاق التعاون المشترك. أكثر من ثلاث أشهر ثمينة وغالية أهدرتها الحكومة الجنوبية عن عمد وسبق إصرار منذ أن وقّع الرئيسان البشير وكير اتفاق التعاون المشترك فى السابع والعشرين من سبتمبر الماضي. لعبت جوبا بتكتيك انتظار ما سوف يحدث، وراهنت على متغيرات سياسية (مفاجئة) كأن تنفجر إطارات العربة السودانية الأمامية فتنقلب، أو أن تفقد العربة المكابح، أو أن تصطدم بأيّ شيء فى الطريق. لم تكن جوبا وما تزال تريد إنفاذ بروتوكول الترتيبات الأمنية لتفقد حلفائها فى جنوب كردفان والنيل الأزرق وتنفض يدها عن الشأن السياسي السوداني الداخلي. إتفاق الترتيبات الأمنية بدا لجوبا – ولا يزال كذلك – أسوأ دواء مرّ عليها أن تتجرعه بسرعة لتنال بعض العافية السياسية، ولهذا ظلت ترفضه بعقلها الباطن وتقبله بعقلها الظاهر؛ وما بين هذا ذاك تبحث عن مهرب. إن إهدار ثلاثة أشهر من عمر اتفاقية التعاون المشترك بحسابات المصالح السياسية هي خسارة فادحة لدولة ناهضة ما تزال تبحث بأقدام رخوة عن أرض ثابتة تقف عليها. لو أن جوبا شرعت بحسن نية – ودون أدنى خداع للنفس – فى تنفيذ الملف الأمني منذ لحظة التوقيع على الاتفاق لنالت حتى الآن كل ما كانت تطمع فيه من السودان ولتدفق نفطها فى الأنابيب السودانية وعالجت أزمتها الاقتصادية الطاحنة التى لم يعد من مجال لإخفائها (فقد فاحت رائحتها)! ويكفي فقط أن نشير هنا الى أن جوبا ومع حلول العام الميلادي الجديد 2013 لا تملك أيّ فلس واحد لمواجهة أعبائها ومصروفاتها المالية اليومية؛ فلا الأممالمتحدة لديها الرغبة فى دفع مساهمتها (حوالي 400 مليون دولار)، ولا الولاياتالمتحدة رغم صداقتها القوية بها راغبة فى فعل ذات الشيء ولا الاتحاد الأوربي يفكر فى دفع ما عليه. لقد وصل الأمر بالقادة الجنوبيين مطلع شهر ديسمبر الحالي للتفكير فى (وجود خطة أمريكية) لتغيير قادة الحركة الشعبية والإتيان بقادة أذكياء يعرفون كيف يديرون مصالح بلادهم ومصالح القوى العظمى الحليفة لهم. الرئيس كير ناقش باستفاضة فى بدايات ديسمبر مع مسئولة أوربية فى جوبا مخاوفه من سقوط حكومته لأسباب اقتصادية مالية. المسئولة الأوربية التى لا تجامل عادةً، قالت له بوضوح إن عليك أن تُحسِن اللعب، وهو نصح ما يزال الرئيس كير يبحث عن معنى أو تفسير سياسي له دون جدوى. لقد كان إنفاذ اتفاق التعاون المشترك هو مخرج جوبا الوحيد فى الواقع لمعالجة أهم قضاياها مع السودان سواء على صعيد الاقتصاد أو الصعيد الاجتماعي (الجنسية) أو حتى الأمني, خاصة وأن جوبا ترمق الخرطوم بعيون لا تخلو من حسد، إذ كيف صمد السودان صموداً أسطورياً حيال ملف النفط وسعى لاستكشاف حقول نفطية جديدة مثل حقل (برصاية) بولاية جنوب كردفان، والذي يتوقع أن يصل إنتاجه فى غضون أشهر قلائل الى ما يجاوز ال10 ألف برميل. هذا التطور على الصعيد الاقتصادي فى السودان يضايق جوبا، فهي استخدمت سلاح النفط ضد السودان لتجعل السودان يصرخ وها هو السودان لا يمتنع عن الصراخ فحسب، ولكنه يعمل على إيجاد بدائل حقيقية، فى حين أن جوبا لم تفعل أيّ شيء، وما تزال تبحث عن وسيلة لتصدير نفطها. لم تكن جوبا حين حسبت حساباتها عند اتخاذ قرار وقف ضخ النفط قد قدّرت هذا الأمر، ولهذا كان من المحتم أن تُفاجأ أو أن تُصدَم وأن تعيد قراءة الأوضاع من جديد. من هنا بدأت تظهر رغبتها ذات الطابع التكتيكي فى عقد قمة رئاسية جديدة بين الرئيسين البشير وكير. وهي قمة أعربت جوبا -من جانبها- عن حاجتها إليها ولكن لم تتبلور الفكرة بعد على الرغم من أن السودان لم يمانع فى عقدها؛ وعلى الرغم أيضاً من أن المطلوب هو إنفاذ اتفاق تم التوصل إليه بين الجانبين ولا يحتاج - إذا حسنت النوايا - لعقد قمم رئاسية لتعود وتتباحث من جديد فى ما تم التباحث حوله أصلاً. إذن يمكن القول أن حاجة جوبا الى قمة جديدة هي فى الواقع حاجتها الى (ما يستر جسدها السياسي البالي) بعدما انكشفت لعبتها ولم تساعدها الظروف والقراءة السياسية الخاطئة فى نيل مبتغاها، وهي دون شك رغبة تنم عن ضعف فى المواقف، فهي التى أعاقت وعرقلت إنفاذ الاتفاق، وهي التى تلاعبت بالاتفاق على أمل أن يحدث شيء يجنِّبها تنفيذه وها هي الآن تبحث عن وسيلة (مشرِّفة) لتنفيذ الاتفاق.