لم يعد سراً أن جوبا وحيال تعاملها مع إتفاقية التعاون المشترك الموقع بينها وبين السودان فى السابع والعشرين من سبتمبر الماضي تراهن على أمرٍ ما، من شأنه أن يحول دون تنفيذها للاتفاق على الأقل فى جانبه الخاص بالترتيبات الأمنية . لقد انقضت حتى الآن قرابة الثلاثة أشهر ولم ينفذ من الاتفاق ولو(1%) منه. كان واضحاً أن جوبا تعاف أو تخاف - كليهما بمقدار واحد - تنفيذ بند الترتيبات الأمنية لكونه ينزع عنها ورقة سياسية مهمة هي حريصة غاية الحرص على الاحتفاظ بها حتى النهاية. وربما لهذا السبب رأيناها وهي تقفز فوق الملف الأمني -بلا أدنى مهارة- وتعرض إعادة ضخ النفط, ورأيناها أيضاً تعمل على تسويق منطق سياسي غريب باستحالة قيامها بنزع أسلحة مليشيات خارج حدودها! لقد بدا وكأن ما وقعته جوبا فى أديس أبابا فى السابع والعشرين من سبتمبر الماضي مجرد ورق فاخر مصقول هو فقط لأغراض التاريخ والإعلام. ومن الغريب أن توقع جوبا اتفاقاً تفصيلياً شديد الوضوح وحين يأتي أوان التنفيذ تقرر -دون حياء- أنه مستحيل التنفيذ! ولعل الأكثر غرابة أن جوبا تود أن تنقل ما تم الاتفاق عليه من خانة التنفيذ الى خانة إعادة التفاوض، وهو ما بدا جلياً فى اجتماع اللجنة السياسية الأمنية الذي انعقد فى التاسع من ديسمبر الحالي بالعاصمة السودانية الخرطوم. الوفد الجنوبي الذى ترأسه وزير دفاع جنوب السودان بدأ يلف ويدور حول كيفية إنشاء آلية للتحقق من عدم وجود قوى مسلحة تنشط ضد كل بلد انطلاقاً من البلد الآخر! إن أكثر ما يثير الارتياب حيال هذا الموقف الذي يستحق أن نصفه بأنه (غير مسئول) أن جوبا ليست فقط غير مستعدة لتنفيذ الملف الأمني ولو فى حده الأدنى بإقامة المنطقة العازلة مثلاً؛ ولكنها تتحاشى علناً الدخول فى نقاط جادة وعملية لإزالة كافة أشكال الدعم اللوجستي للقوى المسلحة التى تؤويها. وبالطبع ليس من العيب هنا أن يكشف الجانب السوداني عن سوء نية الجانب الجنوبي أو فقدانه للرغبة فى تنفيذ ما تم على يديه! من المؤكد أن المجتمع الدولي الذي صفق طويلاً للاتفاق وهلل له يعلم أسباب تعثر تنفيذه، فالحكومة الجنوبية الحريصة على ورقة دعم التمرد ولا تود إنزالها أبداً على المائدة، بدا وكأنها وقّعت على إتفاق التعاون المشترك فقط من أجل كسب المزيد من الوقت ومخادعة الجانب السوداني وابتزازه بالملف النفطي. لقد بدا وكأن جوبا التى لديها علم بأن الحكومة السودانية تعِد هذه الأيام موازنتها العامة، ربما ترضخ لقبول إعادة ضخ النفط ليمتلئ فم الحكومة بالنفط وتصمت -ولو مؤقتاً- عن المطالبة بالملف الأمني. لقد تنصلت جوبا منذ توقيع الاتفاق ما بين المراهنة على تداعيات العارض الصحي للرئيس البشير، ثم المراهنة على ما شاع وذاع عن المحاولة الانقلابية واحتمال نشوب خلافات داخلية بين مكونات الحكومة السودانية، ثم راهنت أخيراً على الموازنة العامة للدولة على إعتبار أن حاجة السودان -حسب تقديراتها الخاصة- قد ازدادت لموارد البترول، وأن من الممكن شراء الملف الأمني بالملف النفطي، على أن يُعاد شراء الملف النفطي نفسه لاحقاً بشراء النزاع الحدودي والنزاع فى أبيي. لقد بدت تكتيكات جوبا من خلال مسلكها فى الشهرين الماضيين على هذا النحو، ولهذا لا يبدو أن انفراجاً سوف يلوح فى الأفق على المدى القريب، فالدولة الجنوبية الوليدة تتبع تكتيكات بحسابات وتقديرات خاصة، سعياً منها لإخضاع الدولة السودانية ولو بعد حين لمشيئتها، وهو أمر لا يخفى على أي مراقب، وربما بدت بعض تداعياته من خلال خروج المبعوث الأمريكي الخاص (برنستون ليمان) من الميدان تماماً بما يعد فشلاً ذريعاً -رسمياً وشخصياً- للولايات المتحدة وللمبعوث الخاص كونه لم ينجح فى أن يسوق جوبا باتجاه علاقات مستقرة مع جارها السودان. ومن المهم هنا أن نلحظ إن آخر الرهانات الجنوبية ربما تتصل برغبة قديمة متأججة بأن يتولى مجلس الأمن – بموجب قرار صادر عنه – ملف النزاع برمته، وهو أمر قالت الخارجية السودانية أنه لن يتم وأنها مدركة لتكتيكات الحكومة الجنوبية وحساباتها الخاطئة فى هذا الصدد. وعلى أية حال فإن مستقبل هذا الاتفاق ومهما بدا من إمكانية إنزاله على أرض الواقع يبدو أنه مستقبلاً محفوف بالمخاطر الجمة.