لامسَ المبعوث الامريكي الخاص للسودان برنستون ليمان عصب النزاع الحساس للغاية بين دولتيّ السودان وجنوب السودان -بصورة نادرة للغاية- حين أقرَّ فى تصريحات محدودة - الخميس الماضي - بمقر السفارة الأمريكيةبالخرطوم عقب إنهائه لقاءات موسعة بعدد من المسئولين السودانيين بأن الأزمة الحقيقية بين الخرطوموجوبا تكمن فى إنعدام الثقة بينهما وأن إنعدام الثقة بدوره عائد الي وجود التمرد فى ولايتيّ النيل الأزرق وجنوب كردفان! هذه الملامسة الأمريكية التى يحق أن نصفها بأنها نادرة لا تعبِّر بالضرورة عن إكتشاف أمريكي متأخر لطبيعة الأزمة بين البلدين الجارين، إذ أن من الصعب الزعم ان واشنطن وطوال سنوات النزاع المتصاعد بين جوباوالخرطوم لم تكن تعلم، أو كانت تجهل كل الجهل سبب ومحور هذا النزاع المستعصي على الحل. بالتأكيد واشنطن على دراية تامة بكل منغِّصات السودان على الحدود ومآخذه على جوبا، بل لا نغالي إن قلنا ان ذلك كان وما يزال يناسب واشنطن، بأن تظل ورقة التمرد فى المنطقتين ساخنة وحاضرة فى يديها تستعين بها على قضاء حوائجها فى السودان. وشاهدنا فى ذلك ان التمرد فى جنوب كردفان والنيل الازرق تمت إدارته بسلاح جنوبي، والسلاح الجنوبي -بداهة- هو سلاح أمريكي وإن لم يكن سلاحاً أمريكياً فهو –على الاقل– مستجلب بمال أمريكي. إذن لماذا تبرع ليمان هذا التبرع النادر بتفكيك عناصر الأزمة ووضعها هكذا على الطاولة؟ الواقع لا أحد بإمكانه سبر غور التصرفات الأمريكية كلما تعلق الأمر بالأزمة بين جوباوالخرطوم، فمع أن المفروغ منه أن واشنطن عادةً ترجح الكفة الجنوبية وتقف على الضفة الأخرى ضد الخرطوم؛ إلاّ انها فى بعض الأحيان تتخذ مواقفاً مختلفة، وهى مواقف وإن بدت ذات طابع تكتيكيّ عابر إلا أنها لا تخلو من آثار بعيدة المدي. وما من شك أن ليمان وقف على كثير من الحقائق فى زيارته هذه الى الخرطوم والتى قالت مصادر دبلوماسية مطلعة أنها ودوناً عن كل المرات السابقة تميزت بتعدد المسئولين الذين إلتقاهم، وطول الوقت الذى قضاه، وكثرة التفاصيل التى ناقشها وقوة المنطق الذى جوبه به. وتشير المصادر التى هاتفها (سفاري) الى ان ليمان بدا قلقاً للغاية -على غير العادة- جراء إصرار الخرطوم -بمنطق قوى وسديد- على أولوية الملف الأمني على ما عداه من ملفات بما فى ذلك ملف النفط نفسه، وقد وصل ليمان نفسه –بواقع هذا المنطق المؤثر– لذات القناعة السودانية بأنَّ بناء الثقة الذى يحتاج اليه الجانبان يبدأ بطيّ النزاع المستمر فى المنطقتين، وهو ما قاله وعبَّر عنه بتعبيره الخاص عند تنويره المحدود بمقر سفارة بلاده بالخرطوم. فيا تُرى، هل يعني ذلك ان ليمان قد آل على نفسه القيام بمهمة إقناع الجانب الجنوبي بهذه النقطة الهامة؟ من الجائز ان يكون الأمر كذلك وربما لهذا السبب رأينا كيف طرح ليمان إمكانية دمج الملفين – الأمني والنفطي – بحيث يُنفَّذَان معاً وبالتوازي والتزامُن، وهو ما بدا أن الخرطوم لم تمانع فيه ولم تقبل به الأمر الذى يشير الى ان ليمان ربما طرح هذا الأمر -كمخرج وسط- على الجانب الجنوبي أملاً فى أن يدفع ذلك بقطار الاتفاق ولو قليلاً الى الامام. من جانب ثاني، فإن واشنطن فيما يبدو تعتقد ان إتفاق التعاون المشترك واحداً من اسهاماتها السياسية فى المنطقة التى إشترت بجزءٍ منها بطاقة الانتخابات الرئاسية التى أعطت إدارة أوباما دورة رئاسية ثانية، ومن ثم لا تريد التفريط فى هذه البطاقة لتعود الأمور الى مربعها الأول ويُحسب ذلك عليها مستقبلاً. وهى بهذا الصدد لا تود خسارة الخرطوم تماماً، وفى الوقت نفسه لا تود إعطاء إنطباع للجانب الجنوبي بأن (طلباته لديها أوامر)! أما من الجانب الثالث والأخير، فإن واشنطن فيما يبدو أيضاً تود أن يعود تدفق النفط الجنوبي من جديد بتوافق وتراضي تام بين الخرطوموجوبا، وكلنا يعلم حساسية واشنطن كلما تعلق الأمر بالسائل الأسود فى أيّ بقعة من بقاع العالم وإدراكها التام الى أن النفط يمثل بالنسبة لها الحياة بكل ما تعنيه الكلمة . وعلى كلٍ، من السابق لأوانه الجزم بأن واشنطن ستعمل على دفع الاتفاق بين جوباوالخرطوم بما يعيد الاتفاق الى وضعه الطبيعي. هناك الكثير مما يثير القلق بشأن هذه الوساطة الأمريكية، خاصةً وأن الخرطوم تعلم ان واشنطن لم تكن فى يوم الأيام بمثل هذا القدر من النزاهة التى تدعو للطمأنينة!