رسالة دبلوماسية بالغة العمق والنعومة أرسلتها الحكومة السودانية بهدوء تام الى الحكومة الجنوبية فحواها أنها ما تزال -ومنذ وقف ضخ النفط الجنوبي- تستحدث موارداً أخرى لموازنتها العامة ولم تعد منشغلة بموارد وعائدات النفط لاستعدال ميزانها العام. ففي الاسبوع الماضي كانت وزارة المالية السودانية قد أكملت وضع الخطوط العامة للموازنة العامة للدولة للعام المقبل 2013م. على محمود وزير المال السوداني قال للصحفيين إن الموازنة الجديدة لم تستحدث ضرائباً جديدة ولم تنتظر حسم ملف النفط لتقوم بوضعه ضمن بنود الموازنة، إذ من المقرر ان يكون مجلس الوزراء السوداني الذى عقد جلسة استثنائية الاثنين الماضي قد ناقش تفاصيلها ووقف على أهم بنودها توطئة للدفع بها الى البرلمان السوداني ليجيزها فى صورتها النهائية لتصبح سارية المفعول إعتباراً من مطلع العام المقبل. عدم إهتمام الحكومة السودانية كثيراً بعائدات النفط لتصبح ضمن بنود الموازنة هى دون شك رسالة شديدة الدلالة حتى لا تشعر جوبا فى أي وقت من الأوقات ان بإمكانها ممارسة ضغط على الحكومة السودانية فى ملف النفط. صحيح أن عنصر النفط إذا تم الاتفاق حوله وجرى إدخاله فى الموازنة العامة هو بمثابة الحياة للحكومة السودانية، فهو يشكل عنصراً مهمّاً لديها، ولكنه ليس كل شيء. وتشير متابعات (سودان سفاري) وفق مصادر اقتصادية مطلعة بوزارة المالية السودانية بالخرطوم الى ان الحكومة السودانية ومنذ نشوب النزاع حول النفط العام الفائت2011 زوّدت وفدها المفاوض فى أديس أبابا بورقة مهمّة للغاية مؤداها أن لا يشكل النفط عنصر ضغط على الوفد، فهو خارج حسابات الموازنة العامة، وقد أتاح ذلك بحسب المصادر للوفد السوداني التحرك بحرية وفاعلية من جهة، وأتاح فى نفس الوقت للحكومة السودانية تدبُّر حالها والبحث عن موارد جديدة شكّل الذهب جزءاً منها ونالت الحكومة السودانية خبرة جيدة فى كيفية إدارة ما توفر من موارد من جهة أخرى. والأمر يبدو على العكس تماماً بالنسبة للجانب الجنوبي الذى يكفي أن تقريراً ضافياً قدمه مساعد الأمين العام لعمليات حفظ السلام لمجلس الأمن الاسبوع الماضي رسم فيه صورة قاتمة للأوضاع فى دولة الجنوب اذا لم يعاود النفط تدفقه فى القريب العاجل. التقرير الأممي كما رأينا لم يقتصر فقط على الآثار الاقتصادية المدمرة للإقتصاد الجنوبي، ولكنه أشار الى آثار أمنية أكثر كارثية على مجمل الأوضاع الأمنية فى الدولة الجنوبية الوليدة. وهكذا، يبدو أن جوبا – التى أختارت المناورة بوقف ضخ النفط – بات يتعيّن عليها ان تجد لنفسها طريقة ما للتحلُّل من الحبل الغليظ الذى لفّته بعناية على رقبتها، وربما لهذا السبب رأينا ليمان يهرع الى الخرطوم ويتبعه باقان أموم ووفد أمني رفيع، إذ يبدو ان أحداً منهم - جوبا وواشنطن - لم يكن يتوقع أن ترفض الخرطوم إستئناف ضخ النفط وتصرّ قبل ذلك على ضرورة حسم الملف الأمني. الخرطوم فى الواقع كانت قد إستعدّت، بينما جوبا تراهن على حسابات أكل الدهر عليها وشرب!