لم يأت السفير الأمريكي فى الخرطوم (جوزيف استافورد) بجديد حين صرح مؤخراً بأن بلاده لا تسعى للإطاحة بالحكومة السودانية ولا توجد لديها أية نوايا مسبقة لتقسيم السودان؛ فذات هذه التصريحات ولا نبالغ إن قلنا بذات العبارات، سبق وأن ردّدها أكثر من مسئول أمريكي العام الماضي ومطلع العام هذا، إذ من الطبيعي ألاّ يفصح المسئولين الأمريكيين، وخاصة الدبلوماسيين منهم عن طبيعة الخطط والتكتيكات التى تتبعها بلادهم فى تعاملها مع الآخرين، فضلاً عن أن ذلك في الواقع يدخل ضمن مهام أجهزة أخرى لا تصرِّح عادة بما تقوم به لأجهزة الإعلام. وفوق كل ذلك فإن هذه التصريحات فى الحقيقة لا تعدو كونها تحصيل حاصل وذلك ببساطة شديدة لأن واشنطن وطوال أكثر من عشرين عاماً ما تركت وسيلة للإطاحة بالحكومة السودانية إلا وجربتها سراً كان أو جهراً، بل إن قصفاً صاروخياً فى إحدى المرات -أغسطس 1998- طال الخرطوم تحت زعم تصنيع أسلحة كيمائية. وقبل ذلك قدمت واشنطن منذ العام 1989 وحتى توقيع اتفاقية السلام الشاملة فى نيفاشا 2005 ما يجاوز فى جملته ال17 مليار دولار –بحسب مصادر دبلوماسية مطلعة– دعماً وتسليحاً للحركة الشعبية التى كانت تقاتل الحكومة المركزية فى الخرطوم. وأما الحركات الدارفورية المسلحة فقد تلقت حتى الآن ما لا يقل عن 3 مليار دولار عبر قنوات وجهات مختلفة. واشنطن فعلت كل ذلك ولا تزال تفعل فى دعمها السخيّ لما يسمى بالجبهة الثورية ولكن كل هذه الجهود والمال المبذول لم يؤدي الى الإطاحة بالحكومة السودانية، وهو أمر أشكل ولا يزال يشكل على العديد من المسئولين الأمريكيين كونهم ما يزالوا يستغربون ويتساءلون أين هي العقدة الحقيقية التى ظلت تقف حجر عثرة على طريق تفكيك الحكومة أو الإطاحة بها. لهذا فحين يقول مسئول أمريكي إن بلاده لا تعتزم الإطاحة بالحكومة السودانية فهو يقرر واقع بأكثر مما يبوح بحقيقة أو سر حقيقي؛ فالصعوبات والعقبات هي التى أعيت واشنطن وليس مواقفها السياسية المبدئية، ولعلنا شهدنا كيف أن واشنطن وعلى الرغم من كل التعاون الذى قدمه السودان لها فى مجال مكافحة الإرهاب وأقرّت به على الملأ، ما تزال تصرّ على أن السودان يدعم الإرهاب! كما أنها وعلى الرغم من كل ما حققه السودان وأنجزه فى مضمار العملية السلمية سواء اتفاقية نيفاشا 2005 وإجراؤه لاستفتاء تقرير مصير سلس للجنوب أو اتفاقية الدوحة الخاصة بدارفور أو اتفاقية الشرق، رغم كل ذلك لم ترفع عنه واشنطن عقوباتها الاقتصادية وما تزال تضيِّق عليه، دعك من تطبيع علاقاتها معه. أما عن وجو نوايا أمريكية مسبقة لتقسيم السودان فهذه فى الواقع يمكن أن تكون (تصريحات مغالطة) وليست مجرد تصريحات دبلوماسية، فمن لا يتذكّر تهديدات المبعوث الأمريكي الخاص السابق بفصل شرق السودان؟ ومن لا يعرف شيئاً عن أحاديث وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي الأشهر (آفي ديختر) عن تقسيم السودان؟ من ذلك الساذج الغر الذى يمكنه أن يفصل ما بين إستراتيجية واشنطن وإستراتيجية إسرائيل؟ وهل من الممكن أن نصدق السفير الأمريكي وهو يبرر صلات بلاده بالحكات الدارفورية المسلحة بأنها في سياق (إقناعها بتطوير أجندتها السياسية)؟ هل تحولت واشنطن من دولة عظمي تجري وراء مصالحها الى (أستاذ علوم سياسية) يلقي المحاضرات على قادة الحركات المسلحة ليخلق منهم تلاميذ نجباء فى العمل السياسي؟ لقد كانت تصريحات (استافورد) -للأسف الشديد- بمثابة إثبات للنوايا السيئة لواشنطن حيال الخرطوم، ولن يجدي فى ذلك رفعها الحظر عن سكر النيل الأبيض، ففي النهاية واشنطن تمارس لعبة إعطاء المال (فى شكل قطرات) ثم الضرب بالسوط وأحيانًاً أخرى الكيّ بالنار!