سحبت الحكومة الجنوبية - مطلع الأسبوع الماضي - جيشها المحشود على حدود السودان. الخطوة الجنوبية ذات الطابع الايجابي النادر لم يُعرف بعد وإن كان ذاك الى حين، طبيعة ما وراءها من أهداف؛ فقد درجت جوبا على أية حال على تشكيك الكل فى خطواتها، ذلك على الرغم من أن العديد من المراقبين يشيرون الى أن الخطوة الجنوبية فى الغالب مبنية على جهود الوساطة التى يقودها الرئيس الإثيوبي (هايلي مريام) بين البلدين بغرض حل المشاكل المتصاعدة بينهما. غير أن المتابع – عن كثب – لملف العلاقات السودانية الجنوبية بإمكانه أن يستشف ببساطة أن كل ما تفعله جوبا الآن من إلحاق للأذى السياسي والأمني والاقتصادي بالسودان منذ انفصال الدولة الجنوبية، هو أمر يمكن القول أنه تكتيكي وليس استراتيجي رغم أن الحركة الشعبية الحاكمة هنالك لا تدري بعد ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي، وهي بعدُ لا تزال فى طور اليرقة. هذه التصرفات الجنوبية حيال السودان منبعها الأساسي –وفق ما ظل يجري– شعور عالٍ بالتراكمات السابقة حيال الحكومة السودانية من جهة؛ وحيال الرأي العام السوداني بأجمعه من جهة ثانية. الغل السياسي إذا جاز التعبير الذى يمسك بخناق القادة الجنوبيين هو غل سياسي أسهمت فيه الحرب الشاقة الطويلة التى دارت رحاها منذ بواكير الاستقلال فى العام 1955 ومن ثم فإن القادة الجنوبيين ينظرون بقدر وافر من هذا الغل حيال كافة مكونات السودان السياسية والاجتماعية بدون استثناء. قد يعود ذلك الى شعور بالدونية أو لشعور يتصل بقلة الوعي الجنوبي أو لأسباب وجذور تاريخية. المهم هنالك غل سياسي لا ينكره إلا مكابر، هو الذى يؤجج نفوس الحركة الشعبية -الذين عجزوا عن النسيان- حيال الدولة السودانية، وهذا الغل يتضح أكثر فى إصرار الحركة الشعبية بوعي منها أو بغير وعي على استمرار تأزيم الوضع السوداني على حدوده الجنوبية سواء لإعطاء تبرير لنفسها أن الدولة المركزية السودانية لا تهتم ولا تأبه للأطراف ذات الأعراق الزنجية؛ أو حتى بغرض أن يظل الموقد السوداني مشتعلاً كنوع من الثأر والانتقام السياسي. الفارق الوحيد بين غل القادة فى الجنوب حيال مجمل الدولة السودانية والغل حيال الحكومة السودانية بصفة خاصة (تحديداً المؤتمر الوطني) أن قادة الحركة الشعبية يشعرون بغل خاص تجاه المؤتمر الوطني، يفوق ذلك الذي يحسونه حيال مجمل المكونات السياسية والاجتماعية السودانية، وذلك لاعتبارات تتصل بما يمكن أن نسميها (الهزيمة العسكرية) التى ألحقتها الحكومة السودانية والمؤتمر الوطني بالجيش الشعبي طوال فترة الحرب، على الأقل فى الفترة من 1989 حتى 2005، فقد واجهت الحركة الشعبية – وعلى نحو نادر – خصماً شرساً وقوياً لم تنكسر قناته ولم يتراجع عن أطروحاته. كان شعور الحركة الشعبية بأنها تقاتل حكومة غير مرحب بها دولياً وإقليمياً ومحلياً ولديها معارضين يسدون عين الشمس فى عددهم ورغم ذلك لم تستطع أن تلحق بها هزيمة. ونكاد نجزم أن هذا الشعور تقاسيه الحركة الشعبية كأمر شديد الوقع عليها. صحيح أنها فى النهاية أخذت إقليمها وحولته الى دولة، وصحيح أيضاً أنها أتيحت لها –ولأول مرة– أن تستخدم حق تقرير المصير لتنتزع عبره دولة مستقلة، ولكن بالمقابل لم تتخلص بعد من شعور الهزيمة والمرارة حيال المؤتمر الوطني، فقد أخفقت كل تحركاتها فى إضعافه أو النيل منه، ولهذا قلنا إن الدولة الجنوبية لا تمارس فى الواقع ما تمارسه الآن حيال السودان كأمر استراتيجي مقصود ومخطط له بعناية، فهي من الناحية الإستراتيجية المحضة من المستحيل عليها تماماً ومهما كانت الأسباب أن تستغني ولو بنسبة 1% عن السودان، فتلك مقتضيات الجوار من جهة، ومقتضيات عمليات الانفصال التى يشير التاريخ الى أنها إنما تقع شكلياً ولكنها لا تقع عملياً وموضوعياً، نظراً للاعتبارات الجيوسياسية. الدولة الجنوبية فعلت كل ما فعلته لإيذاء السودان ولم تنجح فى كل ما جربته حتى بدأت تصل الى قناعات راسخة أنها مضطرة لتغيير إستراتيجية اللعب. ولعل أكثر ما بات يهدد حسابات وتقديرات القادة الجنوبيين أن المؤتمر الوطني بدا يبدو لها بلا منازع فى الساحة؛ وقوى العارضة السودانية أضعف من أن تصبح بديلاً له ولو بعد قرن من الزمان . قناعة القادة الجنوبيين نابعة من قناعة الأمريكيين والأوروبيين الذين تيقنوا بأن قوى المعارضة السودانية لا مستقبل لها فى ظل واقعها المؤسف الحالي، وفى المقابل الإرادة الشديدة البأس لدي الوطني. مراهنة القادة الجنوبيين على قادة ضعاف وسودان ممزق تسود فيه الحروب حتى وإن وافق هوى بعضهم – فى سياق الثأر والانتقام من هذا البلد – وجلب الحرب الى أحشائه بعدما كانت لعقود على أطرافه؛ إلا أنها بالمقابل مهدد أمني واقتصادي كبير للدولة الجنوبية فأينما تسود الفوضى فى السودان ويصبح الحكام ضعافاً ومتشرذمين تضيع مصالح الدولة الجنوبية ويتهدد أمنها وربما انتقلت العدو إليها. القادة الجنوبيين – لحسن الحظ – بدئوا في استيعاب الأمر، إذ لا بد من خرطوم قوية حتى وإن كانت لا تروق لهم!