في ظني أن الذين احتجوا على الإصلاحات الاقتصادية الأخيرة غابت عنهم بعض المعلومات المهمة على الرغم من الإيضاحات التي تمت بشأن شرح دواعي إصدار هذه القرارات، والتي كان أخرها المؤتمر الصحفي الذي عقده رئيس الجمهورية المشير عمر البشير، وتحدث الكثيرون من الاقتصاديين حول خطر تأجيل هذه الإصلاحات وأبانوا أنه أن لم تتم هذه الإصلاحات الآن فسيصاب الاقتصاد السوداني بالانهيار وستشهد الأسواق شحاً وربما انعدام للسلع، بينما ستكون متوفرة وإن أرتفع سعرها بعد إنفاذ هذه الإصلاحات وسيقل سعرها تدريجياً بعد عودة الاقتصاد لعافيته. وعافية الاقتصاد ستعود حينما تضخ أموال لقطاعات الإنتاج (الزراعة والصناعة) ليتحقق الاكتفاء الذاتي من السلع الإستراتيجية، أو كما قال بذلك الاقتصاديون .. وهذه الأموال سيتم توفيرها من عائدات رفع الدعم عن المحروقات التي تم تنفيذها في إطار تلك الإصلاحات لأن الهدف الأساسي لرفع الدعم هو أن يغذي الاقتصاد عبر ثلاثة محاور أولها تمويل قطاعات الإنتاج، فمن المقرر أن يتم دعم مشروع الجزيرة ب(20) مليار جنيه لدعم الزراعة من جملة (300) مليار جنيه.. فيما يبدو أننا موعودون بقفزة زراعية كبيرة وأكيد ستنعكس على اقتصادنا مما يعني سيقل معدل التضخم أو كما هو مخطط له، ولكن الكثيرين يستعجلون نتائج هذه الإصلاحات لذا كانت هذه الاحتجاجات.. وفات على البعض أو – ربما أسهم ضعف آلية توضيح المعلومة – أن هذه الإصلاحات ستذهب عائداتها إلى محاور أخرى، ثانيها بعد دعم القطاع الإنتاج هو زيادة الدعم المباشر للشرائح الفقيرة والضعيفة وزيادة قيمة الكفالة لمستحقيها، وقد شرعت الجهات المعنية في إنفاذ ذلك من بينها وزارة الرعاية والضمان الاجتماعي التي وضعت مبادرة لامتصاص آثار الإصلاحات الاقتصادية وتسلمت الاعتمادات المالية من وزارة المالية ووجهت آلياتها لوضع المبادرة موضع التنفيذ الفعلي ودعمت الشرائح الضعيفة والفقيرة، بما في ذلك دعم التعليم والتأمين الصحي والمعاشيين وأضافت عدداً مقدراً من الأسر المستحقة بجانب زيادة الدعم المقدم لها.. وفي تقديري أن هذه المعلومات لم تكن حاضرة لدي المحتجين على القرارات الاقتصادية، وانحصر الفهم بأن القرارات هي فقط زيادة في أسعار المحروقات دون أن يدروا أن هذه الزيادات هي في الأصل لدعم الشرائح الضعيفة، بما فيها شريحة العاملين بالدولة والتي سرتفع رواتبهم بنسبة معقولة أقرتها وزارة المالية، وصدر توجيه من رئاسة الجمهورية بان تتم بأثر رجعي منذ يناير الماضي على أن يتم صرف نصف راتب أكتوبر قبل عيد الأضحى المبارك.. المحتجون أيضاً لم يكترثوا للمعالجات التي وضعتها ولاية الخرطوم بالإبقاء على تعرفة المواصلات إلا بزيادة طفيفة على بعض الخطوط، وذلك بعد ان تعهدت الولاية بتقديم دعم مقدر لأصحاب المركبات ولم يتأثر هذا القطاع كثيراً برفع الدعم، ولكن فيما يبدو أن هؤلاء غابت عنهم كل هذه المعالجات، كما غابت القرارات التي أصدرتها، ولاية الخرطوم بتوفير أسواق خيرية مدعومة السلع.. وأعتقد أن الحكومة أخطأت حينما أجلت إجراءات هذه الإصلاحات، فمنذ أن بدأ يتعرض الاقتصاد السوداني إلى صدمات في العام 2006م بعد تنفيذ اتفاقية نيفاشا وخروج 50% من إيراد البترول كان الأحرى بالحكومة أن تضع برنامجاً لمواجهة هذه الصدمة، لم تفعل ذلك إلى أن حدثت الصدمة الثانية في العام 2008م بعد حدوث الأزمة المالية العالمية حينما حدث ركود اقتصادي قلص الطلب على البترول فانخفضت أسعاره وأثرت أيضاً على تدفقات المنح والقروض. وأجلت الحكومة الإصلاحات إلى أن حدثت الصدمة الكبرى بعد انفصال الجنوب وفقد السودان 70% من إيراد البترول وهو يمثل أكثر من 85% من عائد الصادرات السودانية، والخطأ الأكبر حينما لم توظف هذه العائدات في الإنتاج واعتمدت أكثر على البترول دون أن تجد لها إيرادات أخرى لذا حينما قل إيراد البترول حدث عجز كبير في الميزان التجاري واختل توازن الاقتصاد. وما زاد الأمر سوءاً أن حكومة الجنوب لم تلتزم بسداد رسوم عبور النفط حتى الربع الأول من العام 2012م ولم تستطيع الحكومة تنفيذ البرنامج الثلاثي للإنقاذ الاقتصادي بسبب شح موارد النقد الأجنبي خاصة بعد أوقفت حكومة الجنوب تصدير البترول ثم الاعتداء على هجليج المنتجة للنفط.. وكان الأجدى أن تجري الحكومة هذه الإصلاحات الاقتصادية مرحلة العجز هذه برفع تدريجي لدعم السلع الإستراتيجية كما حدث هذا في المرحلة الأولي ولم تؤثر كثيراً على معاش المواطن، هذا الإصلاح التدريجي نتائجه كانت ستكون طيبة على مستويات عديدة، فمن جانب ستقلل الصرف الاستهلاكي الذي تعود عليه المواطن السودان حينما صار إنساناً مستهلكاً أكثر من أنه منتج، ومن جانب آخر حينما تتحول عائدات رفع الدعم إلى الإنتاج في مناطق الزراعة سيتحول المواطن من دائرة الاستهلاك إلى دائرة الإنتاج وبالتالي ستضح عائدات أخرى في شرايين الاقتصاد وتقلل من احتمال عجزه.. والآن ينبغي أن تستفيد الحكومة من أخطائها السابقة بعد أن مضت في تنفيذ هذه الإصلاحات بأن تحول عائدات رفع الدعم إلى مناطق الإنتاج حتى تزيد من الإيرادات، وأن تمضي في الإصلاحات الاقتصادية تدريجياً وبنسبة أقل حتى لا تكون الصدمة قاسية على المواطن، وأن يذهب الدعم الإجمالي إلى مستحقيه لتحقق هذه الإصلاحات أهدافها، وفي المقابل ينبغي أن ينظر المحتجون لنصف الكوب الملآن لهذه الإصلاحات فعائدات رفع الدعم ستذهب للفقراء سواء دعماً مباشراً عبر الحزم الاجتماعية وزيادة الرواتب، أو دعم الإنتاج الزراعي.. نقلاً عن صحيفة الرأي العام السودانية 1/10/2013م