نجم برشلونة يتصدر قائمة الأغلى في العالم 2025    القوات الجوية السعودية تستهدف شحنة أسلحة إماراتية في ميناء المكلا كانت متجهة للانفصاليين    الحكم بالإعدام على مشارك مع قوات التمرد بالأبيض    لماذا تجد صعوبة في ترك السرير عند الاستيقاظ؟    والي ولاية غرب كردفان ومدير شرطة الولاية يشهدان تخريج دورة حرب المدن لمنسوبي الشرطة بالولاية    لجنة الانضباط توجه انذار نهائي بشطب فريق ام دغينات من كشوفات الاتحاد    فلومو... أوع تلومو!    كواسي إبياه: التأهل عبر أفضل الثوالث حررنا من كل الضغوط ولن نرضى بغير النصر أمام البوركيني    عبده فايد يكتب: تطور تاريخي..السعودية تقصف شحنات أسلحة إماراتية علنًا..    إنشاء مطار جديد في الخرطوم    التحالف: نفذنا ضربة جوية استهدفت دعما عسكريا خارجيا بميناء المكلا    صراع النفوذ في القرن الأفريقي وإنعكاساته السالبة على الإقليم    حالة دكتور ناجي: جزاء المعروف سبعة كفوف    سقط قناع "حرب الجنرالين" وانكشف مشروع تفتيت السودان    الفنّانُ الحق هو القادر على التعبيرِ عن ذاتِه بما لا يخرج عن حدود خالقه    الخرطوم .. افتتاح مكتب ترخيص الركشات    الحزب الشيوعي السلطات الأمنية منعتنا من إقامة ندوة احتفالا بذكرى الثورة    السودان..مسيرات في الشمالية والسلطات تكشف تفاصيل المداهمة    رئيس الوزراء يهنئ المنتخب الوطني بفوزه على غينيا الاستوائية في بطولة الأمم الإفريقية    ضمنها طائرة مسيّرة.. ضبط أسلحة ثقيلة ومواد كيميائية خطرة بالشمالية    شاهد بالصورة.. إعلامي مصري معروف يتغزل في تفاعل فتاة سودانية عقب نهاية مباراة صقور الجديان وغينيا: (الله على الجمال بكاء مشجعة سودانية بعد فوز المنتخب السوداني)    المذيعة والصحفية ملاذ ناجي تتلقى التهانئ والتبريكات من نجوم السوشيال ميديا بمناسبة عقد قرانها    رونالدو يرفض الاعتزال قبل الوصول لهذا الرقم    السودان..وزير الشؤون الدينية والأوقاف يصدر قرارات    5 أطعمة تخفف أعراض البرد في الشتاء    رياض محرز يقود الجزائر لتخطي بوركينا فاسو والتأهل لثمن نهائي أمم أفريقيا 2025    الحقيقة.. كرة القدم تجرّنا جرّاً    رئيس الاتحاد السوداني ينعي الناظر طه فكي شيخ    شاهد بالصور.. الرابر "سولجا" يقتحم مران المنتخب الوطني بالمغرب    الجامعة العربية: اعتراف إسرائيل ب"إقليم أرض الصومال" غير قانوني    الجزيرة .. ضبط 2460 رأس بنقو بقيمة 120 مليون جنيهاً    بنك السودان يدشن نظام الصادر والوارد الإلكتروني عبر منصة بلدنا في خطوة نحو التحول الرقمي    زيادة جديدة في الدولار الجمركي بالسودان    الوطن بين احداثيات عركي (بخاف) و(اضحكي)    السودان يعرب عن قلقه البالغ إزاء التطورات والإجراءات الاحادية التي قام بها المجلس الإنتقالي الجنوبي في محافظتي المهرة وحضرموت في اليمن    لميس الحديدي في منشورها الأول بعد الطلاق من عمرو أديب    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رجل إفريقي عظيم
نشر في سودان سفاري يوم 27 - 10 - 2014

عبارة قرأتها منذ زمن طويل للاقتصادي النمساوي الشهير (جوزيف شومبتير)، وأعود إلى تذكرها بين الحين والآخر، كلما صادفت شخصاً تنطبق عليه هذه العبارة، وهو شيء نادر الحدوث، أو شخصاً لا تنطبق عليه بالمرة، وهو الأكثر حدوثاً، يقول شومبتير: »إن إدراك المرء للطبيعة النسبية لما يؤمن به من معتقدات واستعداده، على الرغم من ذلك، للدفاع عن هذه المعتقدات دون تردد أو خوف، هو ما يميز الإنسان المتحضر عن الهمجي«.
عدت إلى تذكر هذه العبارة من جديد عندما قرأت منذ أيام قليلة، خبر وفاة رجل عظيم من هذا النوع النادر من المفكرين، وهو الأستاذ والكاتب الإفريقي »علي مزروعي«، الذي توفي منذ أسبوعين (في 12 أكتوبر 2014) عن 81 عاماً في نيويورك، ثم نقل جثمانه، طبقاً لوصيته، ليدفن في مسقط رأسه في كينيا، حيث أجريت مراسم الدفن الإسلامية.
كتب علي مزروعي 26 كتاباً، حظيت بتقدير واسع في العالم، ومئات من المقالات في مجلات أكاديمية، تتناول المقارنة بين الثقافات، والعلاقات السياسية والثقافية في العالم، والإسلام السياسي والعولمة.
وعمل أستاذاً في جامعتي ميتشغان وكورنيل الأميركيتين، وألقى المحاضرات في العديد من بلاد العالم، واختير في 1979 لإلقاء محاضرات ريشا (Reith Lectwes) الشهيرة، التي تدعو الإذاعة البريطانية ليلقيها المفكرون المرموقون في العالم، وفي استطلاع للرأي قامت به مجلتان أميركيتان محترفتان في 2005، اختير علي مزروعي واحداً من أعظم مئة مفكر في العالم ما زالوا على قيد الحياة.
وكان وقت وفاته أستاذاً ومديراً لمركز دراسات الثقافات العالمية في جامعة بنغهامتون في نيويورك، ونعاه رئيس جمهورية كينيا بقوله، إنه »كان أكاديمياً عملاقاً، قام إنتاجه الفكري بدور رئيس في تشكيل الدراسات الإفريقية«.
علي مزروعي إذن، إفريقي مسلم، من أصل عربي، ولد في مومباسا عام 1933، لأب قاض، وتلقى تعليمه في كينيا، ثم سافر إلى مانشستر في إنجلترا، حيث حصل على درجته الجامعية الأولى من جامعتها في 1960، ثم على الماجستير من جامعة كولومبيا في نيويورك (1966)، ثم على الدكتوراه من جامعة أكسفورد (1970)، ثم ذهب لتدريس العلوم السياسة في جامعة مكاريري في أوغندا، حيث دعاه الدكتاتور الفظ عيدي أمين ليكون مستشاراً له في العلاقات الدولية (أو على حد تعبير علي مزروعي، ليقوم له بدور هنري كسينغر للرئيس الأميركي نيكسون)، فرفض مزروعي الدعوة، ووجه نقداً علنياً لعيدي أمين، ثم هرب من البلاد.
ظل علي مزروعي يحلم بأفريقيا وقد تخلصت تماماً من آثار الاستعمار، الظاهرة والخفية، وتوحدت، وتوثقت علاقاتها بالعالم العربي، فتكون منها ما كان يجب أن يسميه (Afribia) أي »أفريقيا العربية«. كان يقدر تقديراً عالياً القيم الأخلاقية للإسلام، وأثرها الإيجابي في المجتمع، ولكنه ظل حتى النهاية علمانياً، ويعارض بشدة استخدام الحركات الإسلامية للعنف. لم يعتبر الماركسية أو الشيوعية مبدأ ملائماً لأفريقيا على الإطلاق، ولا الرأسمالية الحديثة، بل كان يفضل تطبيق مزيج من اقتصاد السوق الحر والقيم الأخلاقية الأفريقية.
وفي مسلسل تليفزيوني شهير عن أفريقيا، طلبت منه الإذاعة البريطانية إعداده سنة 1986، وظهر في بريطانيا والولايات المتحدة بعنوان »الأفارقة: الميراث الثلاثي«، صور الثقافة الأفريقية على أنها مزيج من تفاعل ثقافتها المحلية، والثقافة الإسلامية، والتغريب، ولكن المسلسل تعرض لهجوم شديد على صاحبه في الولايات المتحدة، باعتباره معادياً للغرب، وانسحبت الهيئة الأميركية التي كانت قد وعدت بتمويله.
لقد حصل علي مزروعي على كثير من مظاهر التكريم في حياته، ولكني أعتقد أنه كان من الممكن أن يحصل على تكريم أكبر وشهرة أوسع، لولا صراحته التامة في التعبير عما يعتقده، ما دفعه إلى مهاجمة كثير من المواقف السياسة المهمة التي تتبناها المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة. لقد عبر بشجاعة عن تأييده لنضال الشعب الفلسطيني ضد الاعتداءات الإسرائيلية، وعن الشبه بين ما يفعله الإسرائيليون بالعرب، وبين ما يفعله حكم البيض العنصري بالسود في جنوب أفريقيا، وهاجم بشدة الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، وانتقد غرور الحضارة الغربية وتعاليها غير المبرر على غيرها من الحضارات والثقافات، وهي التي ارتكبت من الجرائم والحماقات ما لا يقل قبحاً عما ارتكبه غيرها.
يروي علي مزروعي في أحد المقالات، هذه الواقعة الطريفة، التي تفصح عن نوع مواقفه من ناحية، وعن مواقف المؤسسة الأميركية المسيطرة في الوقت نفسه: في ذلك المسلسل عن أفريقيا الذي أشرت إليه، وردت في إحدى الحلقات جملة عارضة، وصف فيها المزروعي كارل ماركس بأنه »آخر أنبياء اليهود العظام«، وقد ظهرت هذه الجملة، كما هي في النسخة التي أذيعت في بريطانيا، ولكن مزروعي لاحظ أنه جرى حذفها دون إذنه من النسخة التي أذيعت في أميركا، وقيل له إن الحذف تم »منعاً لجرح مشاعر اليهود الأميركيين«.
قال أيضاً إن القناة التليفزيونية الأميركية كانت قد طلبت إذنه بصدد تعديل آخر يريدون إجراءه في نفس المسلسل، ذلك أن المشرفين على القناة لاحظوا أنه خلال الدقائق الثلاث التي تتناول الرئيس الليبي معمر القذافي، لم ينتقده بالدرجة الكافية، وطلبوا منه أن يضيف القول بأنه يساعد الحركات الإرهابية. كان هذا في سنة 1986، حين كانت الولايات المتحدة تبحث عن تبرير لضرب ليبيا، ولكن مزروعي رفض هذا الطلب، فاقترحوا عليه أن يقوم على الأقل بحذف الصور التي تضفي على القذافي مظهراً إنسانياً (إذ يظهر وهو في زيارة لأحد المستشفيات)، فرفض هذا أيضاً.
لم تكن وسائل الإعلام الأميركية إذن لتحتفي برجل من هذا النوع (كما احتفت مثلاً برجل مثل فؤاد عجمي الذي كان يرد كل ما يصيب الغرب من مصائب إلى نقائص في العرب أنفسهم)، ولكن لم يكن من الممكن أيضاً للإعلام الأميركي أن يتجاهله تماماً.
استكتبته مرة المجلة الأميركية الشهيرة »شؤون خارجية« »Foreign Affairs«، فكتب لها مقالة بديعة وجريئة أيضاً بعنوان »القيم الإسلامية والقيم الغربية«، ونشرت في عدد سبتمبر/ أكتوبر1997، ودافع فيها عن القيم الإسلامية في مواجهة القيم الغربية، بقوة وفصاحة (وأرجو أن تتاح لي فرصة العودة إلى هذه المقالة في المستقبل القريب). وفي هذه المقالة يقول علي المزروعي للغربيين ما معناه »نحن أفضل منكم«، ويقول لهم »كفى غروراً، وكفوا عن الاعتقاد بأن حضارتكم وقيمكم هي المثل الأعلى الواجب احتذاؤه من جانب العالم كله«.
لقد حاول علي مزروعي أن يعيش وسط أهله، وأن يدرّس طلبة ينتمون إلى نفس ثقافته، فاضطره حاكم مستبد مشهور بالبطش وسفك الدماء (عيدي أمين)، لأن يعيش في الغرب، وأن يدرس ويحاضر لشباب غريب عنه.
لم يحظ في الغرب بكل ما يستحقه من تكريم، ولكنه استطاع على الأقل أن يعيش حياة مريحة ومستقرة، ويتمتع فيها بالأمن الشخصي. وقد رأيت له بعد وفاته صوراً له في مختلف مراحل حياته، فوجدت وجهاً أسود وسيماً ومشرقاً، بشوشاً ضحوكاً، ما يتفق مع الفكرة التي كونتها عنه من كتاباته، وما تعبر عنه هذه الكتابات من تسامح فكري مع الغير، ولكن مع ثقة كاملة بنفسه.
المصدر: البيان الاماراتية 27/10/2014م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.