عبارة قرأتها منذ زمن طويل للاقتصادي النمساوي الشهير (جوزيف شومبتير)، وأعود إلى تذكرها بين الحين والآخر، كلما صادفت شخصاً تنطبق عليه هذه العبارة، وهو شيء نادر الحدوث، أو شخصاً لا تنطبق عليه بالمرة، وهو الأكثر حدوثاً، يقول شومبتير: »إن إدراك المرء للطبيعة النسبية لما يؤمن به من معتقدات واستعداده، على الرغم من ذلك، للدفاع عن هذه المعتقدات دون تردد أو خوف، هو ما يميز الإنسان المتحضر عن الهمجي«. عدت إلى تذكر هذه العبارة من جديد عندما قرأت منذ أيام قليلة، خبر وفاة رجل عظيم من هذا النوع النادر من المفكرين، وهو الأستاذ والكاتب الإفريقي »علي مزروعي«، الذي توفي منذ أسبوعين (في 12 أكتوبر 2014) عن 81 عاماً في نيويورك، ثم نقل جثمانه، طبقاً لوصيته، ليدفن في مسقط رأسه في كينيا، حيث أجريت مراسم الدفن الإسلامية. كتب علي مزروعي 26 كتاباً، حظيت بتقدير واسع في العالم، ومئات من المقالات في مجلات أكاديمية، تتناول المقارنة بين الثقافات، والعلاقات السياسية والثقافية في العالم، والإسلام السياسي والعولمة. وعمل أستاذاً في جامعتي ميتشغان وكورنيل الأميركيتين، وألقى المحاضرات في العديد من بلاد العالم، واختير في 1979 لإلقاء محاضرات ريشا (Reith Lectwes) الشهيرة، التي تدعو الإذاعة البريطانية ليلقيها المفكرون المرموقون في العالم، وفي استطلاع للرأي قامت به مجلتان أميركيتان محترفتان في 2005، اختير علي مزروعي واحداً من أعظم مئة مفكر في العالم ما زالوا على قيد الحياة. وكان وقت وفاته أستاذاً ومديراً لمركز دراسات الثقافات العالمية في جامعة بنغهامتون في نيويورك، ونعاه رئيس جمهورية كينيا بقوله، إنه »كان أكاديمياً عملاقاً، قام إنتاجه الفكري بدور رئيس في تشكيل الدراسات الإفريقية«. علي مزروعي إذن، إفريقي مسلم، من أصل عربي، ولد في مومباسا عام 1933، لأب قاض، وتلقى تعليمه في كينيا، ثم سافر إلى مانشستر في إنجلترا، حيث حصل على درجته الجامعية الأولى من جامعتها في 1960، ثم على الماجستير من جامعة كولومبيا في نيويورك (1966)، ثم على الدكتوراه من جامعة أكسفورد (1970)، ثم ذهب لتدريس العلوم السياسة في جامعة مكاريري في أوغندا، حيث دعاه الدكتاتور الفظ عيدي أمين ليكون مستشاراً له في العلاقات الدولية (أو على حد تعبير علي مزروعي، ليقوم له بدور هنري كسينغر للرئيس الأميركي نيكسون)، فرفض مزروعي الدعوة، ووجه نقداً علنياً لعيدي أمين، ثم هرب من البلاد. ظل علي مزروعي يحلم بأفريقيا وقد تخلصت تماماً من آثار الاستعمار، الظاهرة والخفية، وتوحدت، وتوثقت علاقاتها بالعالم العربي، فتكون منها ما كان يجب أن يسميه (Afribia) أي »أفريقيا العربية«. كان يقدر تقديراً عالياً القيم الأخلاقية للإسلام، وأثرها الإيجابي في المجتمع، ولكنه ظل حتى النهاية علمانياً، ويعارض بشدة استخدام الحركات الإسلامية للعنف. لم يعتبر الماركسية أو الشيوعية مبدأ ملائماً لأفريقيا على الإطلاق، ولا الرأسمالية الحديثة، بل كان يفضل تطبيق مزيج من اقتصاد السوق الحر والقيم الأخلاقية الأفريقية. وفي مسلسل تليفزيوني شهير عن أفريقيا، طلبت منه الإذاعة البريطانية إعداده سنة 1986، وظهر في بريطانياوالولاياتالمتحدة بعنوان »الأفارقة: الميراث الثلاثي«، صور الثقافة الأفريقية على أنها مزيج من تفاعل ثقافتها المحلية، والثقافة الإسلامية، والتغريب، ولكن المسلسل تعرض لهجوم شديد على صاحبه في الولاياتالمتحدة، باعتباره معادياً للغرب، وانسحبت الهيئة الأميركية التي كانت قد وعدت بتمويله. لقد حصل علي مزروعي على كثير من مظاهر التكريم في حياته، ولكني أعتقد أنه كان من الممكن أن يحصل على تكريم أكبر وشهرة أوسع، لولا صراحته التامة في التعبير عما يعتقده، ما دفعه إلى مهاجمة كثير من المواقف السياسة المهمة التي تتبناها المؤسسة الحاكمة في الولاياتالمتحدة. لقد عبر بشجاعة عن تأييده لنضال الشعب الفلسطيني ضد الاعتداءات الإسرائيلية، وعن الشبه بين ما يفعله الإسرائيليون بالعرب، وبين ما يفعله حكم البيض العنصري بالسود في جنوب أفريقيا، وهاجم بشدة الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، وانتقد غرور الحضارة الغربية وتعاليها غير المبرر على غيرها من الحضارات والثقافات، وهي التي ارتكبت من الجرائم والحماقات ما لا يقل قبحاً عما ارتكبه غيرها. يروي علي مزروعي في أحد المقالات، هذه الواقعة الطريفة، التي تفصح عن نوع مواقفه من ناحية، وعن مواقف المؤسسة الأميركية المسيطرة في الوقت نفسه: في ذلك المسلسل عن أفريقيا الذي أشرت إليه، وردت في إحدى الحلقات جملة عارضة، وصف فيها المزروعي كارل ماركس بأنه »آخر أنبياء اليهود العظام«، وقد ظهرت هذه الجملة، كما هي في النسخة التي أذيعت في بريطانيا، ولكن مزروعي لاحظ أنه جرى حذفها دون إذنه من النسخة التي أذيعت في أميركا، وقيل له إن الحذف تم »منعاً لجرح مشاعر اليهود الأميركيين«. قال أيضاً إن القناة التليفزيونية الأميركية كانت قد طلبت إذنه بصدد تعديل آخر يريدون إجراءه في نفس المسلسل، ذلك أن المشرفين على القناة لاحظوا أنه خلال الدقائق الثلاث التي تتناول الرئيس الليبي معمر القذافي، لم ينتقده بالدرجة الكافية، وطلبوا منه أن يضيف القول بأنه يساعد الحركات الإرهابية. كان هذا في سنة 1986، حين كانت الولاياتالمتحدة تبحث عن تبرير لضرب ليبيا، ولكن مزروعي رفض هذا الطلب، فاقترحوا عليه أن يقوم على الأقل بحذف الصور التي تضفي على القذافي مظهراً إنسانياً (إذ يظهر وهو في زيارة لأحد المستشفيات)، فرفض هذا أيضاً. لم تكن وسائل الإعلام الأميركية إذن لتحتفي برجل من هذا النوع (كما احتفت مثلاً برجل مثل فؤاد عجمي الذي كان يرد كل ما يصيب الغرب من مصائب إلى نقائص في العرب أنفسهم)، ولكن لم يكن من الممكن أيضاً للإعلام الأميركي أن يتجاهله تماماً. استكتبته مرة المجلة الأميركية الشهيرة »شؤون خارجية« »Foreign Affairs«، فكتب لها مقالة بديعة وجريئة أيضاً بعنوان »القيم الإسلامية والقيم الغربية«، ونشرت في عدد سبتمبر/ أكتوبر1997، ودافع فيها عن القيم الإسلامية في مواجهة القيم الغربية، بقوة وفصاحة (وأرجو أن تتاح لي فرصة العودة إلى هذه المقالة في المستقبل القريب). وفي هذه المقالة يقول علي المزروعي للغربيين ما معناه »نحن أفضل منكم«، ويقول لهم »كفى غروراً، وكفوا عن الاعتقاد بأن حضارتكم وقيمكم هي المثل الأعلى الواجب احتذاؤه من جانب العالم كله«. لقد حاول علي مزروعي أن يعيش وسط أهله، وأن يدرّس طلبة ينتمون إلى نفس ثقافته، فاضطره حاكم مستبد مشهور بالبطش وسفك الدماء (عيدي أمين)، لأن يعيش في الغرب، وأن يدرس ويحاضر لشباب غريب عنه. لم يحظ في الغرب بكل ما يستحقه من تكريم، ولكنه استطاع على الأقل أن يعيش حياة مريحة ومستقرة، ويتمتع فيها بالأمن الشخصي. وقد رأيت له بعد وفاته صوراً له في مختلف مراحل حياته، فوجدت وجهاً أسود وسيماً ومشرقاً، بشوشاً ضحوكاً، ما يتفق مع الفكرة التي كونتها عنه من كتاباته، وما تعبر عنه هذه الكتابات من تسامح فكري مع الغير، ولكن مع ثقة كاملة بنفسه. المصدر: البيان الاماراتية 27/10/2014م