بعكس كل من يعتقد خلاف ذلك، فإن الجدل الدائر الآن حول نتيجة الانتخابات النهائية المعلنة رسمياً، أمر طبيعي ولا يبعث مطلقاً على القلق ويخطئ خطأً فادحاً كل من يجري أية مقارنة أو مقاربة بالانتخابات النيابية السابقة الذي ظل يشهدها السودان في السنوات (1953 – 1958)، و(1965 – 1969)، و(1986 – 1989). ففي تلك الانتخابات – وهذه بديهية لا تحتاج لأدنى تفكير – فإن هناك دوائر جغرافية أضيفت لها في مرحلة لاحقة دوائر الخريجين، هكذا سميت، ويقوم الناخب بالادلاء بصوته لمرشح واحد على المستوى القومي فقط، ويتم حساب النتيجة ليصبح الحزب الذي نال أكثرية الأصوات هو الذي يشكّل الحكومة وكانت الحكومات التي تتشكل وفقاً لهذا النظام تُسمى حكومات برلمانية والنظام السياسي السائد يعرف بالنظام البرلماني، الآن وباجماع القوى السياسية تم التحوُّل الى النظام الرئاسي، حيث يتم اختيار رئيس الجمهورية اختياراً مباشراً من الناخبين ثم يتم انتخاب البرلمان ثم الولاة وأعضاء مجالس الولايات – لهذا من الطبيعي والمتوقع – على الأقل لحداثة التجربة – أن يثور الجدل حولها وأن تختلف الآراء، ويقبل البعض ويرفض البعض الآخر، كما أن الناخبين في ذلك الزمان لم يكونوا لا بهذا العدد الكبير (16.5 مليون ناخب) ولا بالاستنارة والوعي الحالي، وفقاً للمستجدات الثقافية والعلمية التي غشيت الحياة عامة في طول العالم وعرضه. ولعل، لهذه الحقائق التي وان غابت عن الساسة السودانيين لاطمي الخدود والنادمين المتحسرين على ما آل اليه مصيرهم السياسي، الا أنها لم تغب عن المراقبين الأجانب ونذكر هنا أن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر قال قولة مهمة لم ينتبه لها أحد بالقدر المطلوب وهي (ان المجتمع الدولي سوف يقبل بهذه النتيجة) ومن المعروف بداهة أن المجتمع الدولي ليس مجتمعاً فاضلاً مجاملاً يمنح في كرم حاتمي وأريحية صكوك المشروعية دون ضوابط وأسس، فمن المؤكد أن كارتر حين قال ذلك كان يستصحب الحقائق التي أوردناها في صدر هذا التحليل فمركز كارتر ليس مركزاً أنشئ حديثاً لا يملك خلفيات ولا يعرف عن السودان شيئاً، كما أن المجتمع الدولي – بطبيعة الحال – يعرف قدر غير قليل عن الحالة السودانية، ولهذا فإن روسيا أشادت بالعملية وان لم تغب عنها بعض الهنّات التي قالت انها عادية، وفرنسا فعلت ذات الشئ، وثمنت روح المسؤولية التي تحلى بها السودانيون في ممارسة حقهم الإنتخابي. ومن المهم هنا أن تراجع القوى التي أخفقت – بشجاعة وارادة قوية – مواقفها واخطائها وسلوكها المضطرب الذي سبق العملية، اذ لا يعقل على الاطلاق أن يكون سبب اكتساح المؤتمر الوطني لهذه الانتخابات هو فقط ممارسة أساليب فاسدة من تزوير وتبديل كما قال قادة هذه القوى فلابد من وجود أسباب خاصة بالقواعد الحزبية لهذه القوى السياسية سواء تبدلت ولاءاتها، أو غلب عقلها على عواطفها، أو أنها تغيرت بالفعل شأنها شأن أي كائن بشري يتغير ويتبدل في ولاؤه، وايمانه لهذا السبب أو ذاك، فلماذا تتحاشى هذه القوى مراجعة نفسها أولاً وبدقة ثم تراجع بعد ذلك كل ما جرى؟