كعادته دائماً أخفق مجلس الأمن الدولي في تمرير مشروع قرار فلسطيني- عربي يطالب بإنهاء الاحتلال "الإسرائيلي" للأراضي الفلسطينية المحتلة في غضون ثلاث سنوات، إذ لم تصوت لمصلحة مشروع القرار إلا ثماني دول من الدول ال15 الأعضاء في المجلس، وكان ينبغي أن ينال المشروع تأييد تسعة من أعضاء المجلس على الأقل من أجل اعتماده . وكانت الدول التي صوتت لمصلحة مشروع القرار هي روسيا والصين وفرنسا ولوكسمبورغ والأرجنتين وتشيلي والأردن، بينما صوتت ضده الولاياتالمتحدة وأستراليا، أما بريطانيا وليتوانيا ونيجيريا وكوريا الجنوبية، فقد امتنعت عن التصويت، وقد خيبت نيجيريا أمل الفلسطينيين والدول العربية عندما قررت في آخر لحظة الامتناع بدل التأييد . بمعنى أكثر تحديداً فقد فشل مشروع القرار ليس بسبب تصويت الولاياتالمتحدة وأستراليا ضده، حيث لم تكن هناك قيمة للتصويت بعد حصوله على ثمانية أصوات فقط . ومن ثم فلم تكن هناك حاجة لاستخدام الولاياتالمتحدة حق النقض "الفيتو" على الرغم من أنها قد هددت باستخدامه . يذكر أن مشروع القرار قد تم تعديله أكثر من مرة من الجانب العربي خافضاً سقف مطالبه وذلك أملاً في أن ينال الأغلبية المطلوبة داخل مجلس الأمن، حيث أشار التعديل الأخير لمشروع القرار إلى أن حدود الدولة الفلسطينية هي حدود 4 يونيو/ حزيران 1967 مع قبول محدود لفكرة تبادل الأراضي . ونص المشروع على انسحاب تدريجي لقوات الأمن "الإسرائيلية" التي سوف تنهي الاحتلال الذي بدأ عام 1967 في موعد لا يتجاوز نهاية ،2017 ودعا مشروع القرار إلى ضرورة حل قضية اللاجئين حلاً عادلاً، ومن الملاحظ أن مشروع القرار المعدل لم يتطرق لموضوع الاستيطان أو حق العودة أو الأسرى، أو أن تكون القدس عاصمة الدولة الفلسطينية وهو ما ينعكس على أن الدول العربية كانت ترى أن تلك القضايا يمكن أن تكون معرقلة لإصدار القرار . ومن الغريب أنه في منتصف ديسمبر/ كانون الأول ،2014 قبيل التصويت في مجلس الأمن على مشروع القرار سالف الذكر- اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بأغلبية ساحقة يؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، حيث صوتت لمصلحة القرار الذي تقدمت به المجموعة العربية 180 دولة من مجموع 193 دولة عضواً بالجمعية العامة، مقابل اعتراض سبع دول هي ("إسرائيل" والولاياتالمتحدة وكندا وجزر مارشال وبالاو ومايكرو نزيا وناورو)، وامتنعت أربع دول عن التصويت هي (الكاميرون وتونغا وباراغواي وجنوب السودان) . وعلى أي حال ليست هذه هي المرة الأولى التي يفشل مجلس الأمن في التصويت على قرارات تدعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني، فقد كان مجلس الأمن دائماً أداة في يد القوى العظمى خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية التي استخدمت حق النقض "الفيتو" "79" مرة، منها "49" مرة لمصلحة "إسرائيل" ومصالحها، و"33" مرة ضد القرارات المؤيدة للحقوق الفلسطينية المشروعة وذلك منذ نشأة مجلس الأمن الدولي وحتى وقتنا الراهن . وفي هذا المقال سنطرح كيف يفسر تناقض مجلس الأمن في تصويته على مشروع القرار الفلسطيني مع الجوهر الذي قامت عليه الأممالمتحدة، والذي تضمنه دستور الولاياتالمتحدة، أي حق تقرير المصير واحترام إرادة الشعوب . إذا كان من المتفق عليه أن مجلس الأمن الدولي قد أصابه العجز والشلل إبان فترة الحرب الباردة، نتيجة إفراط القوتين العظميين (الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق) في استخدام حق النقض "الفيتو"، دفاعاً عن مصالحهما الضيقة ومصالح حلفائهما، دون نظر للاعتبارات الأخلاقية أو القانونية الصحيحة، فبعد انتهاء عصر القطبية الثنائية وغياب التوازن الدولي منذ العقد الأخير من القرن المنصرم أصبح العالم محكوماً بالتصورات الأمريكية لما هو مسموح به وما هو محظور فهي التي تصف المقاومة المشروعة بالإرهاب - كما هي الحال في الأراضي العربية المحتلة- وتسمي إرهاب الدولة دفاعاً مشروعاً عن النفس، كما في وصفها لأعمال العدوان "الإسرائيلي" على أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل في الوقت الراهن . وحاصل القول إن اتباع مجلس الأمن معايير مزدوجة عند النظر إلى القضايا المعروضة عليه، ولعل أبرزها القضية الفلسطينية، أدى إلى ازدياد شعور الدول الصغيرة والشعوب المستضعفة بعدم نزاهة وحياد المجلس، وإلى سيادة الاعتقاد بأن الدول الكبرى- خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية- تستخدم مجلس الأمن لتحقيق مصالحها الخاصة . بمعنى آخر فإن الأممالمتحدة لم تكن بمعزل عن المحاولات الأمريكية لفرض سيطرتها على العالم ومحاولة تغيير قواعده الحاكمة، فقد جعلت الولاياتالمتحدةالأمريكيةالأممالمتحدة تعمل لحسابها من خلال إصدار قرارات من مجلس الأمن تمثل انتهاكاً لأهم مبادئ القانون الدولي المعاصر وأحكامه، ولعل أبرزها ما يتعلق بإنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره . حق تقرير المصير: التطور والمفهوم ترجع الأصول التاريخية لحق تقرير المصير إلى أواخر القرن الثامن عشر، ففي عام 1776 وبعد حرب الاستقلال الشهيرة تكونت الولاياتالمتحدةالأمريكية معلنة حق الشعوب في الثورة ضد الطغيان الداخلي والعدوان الخارجي، منادية بحقوق الإنسان وحق تقرير المصير الذي تضمنه دستور الولاياتالمتحدةالأمريكية لاحقاً، كما تبنت الثورة الفرنسية هذا المبدأ، وذلك ضمن المبادئ التي عملت على تحقيقها من خلال المرسوم التي أصدرته الجمعية الوطنية الفرنسية في 19 نوفمبر/تشرين الثاني ،1792 والذي أكدت فيه مساندتها لجميع الشعوب المطالبة بالاستقلال وحمايتها للمناضلين الذين يكافحون من أجل الحرية . عموماً فإذا كان مبدأ "الحق في تقرير المصير" قد ظَهَرَ أول ما ظَهَرَ في شكلِ مبدأ سياسي يقوم على أساسِ القيم والمُثل العُليا في مجالِ حقوق الإنسان والشعوب، وبغض النظر أيضاً عن عدم الاتِّفاق حول المقصود بالحق في تقرير المصير، فقد كشفت الممارسة في إطار الأممالمتحدة عن توافق الرأي بشأن تحديد ثلاثة أشكال لقيام الحق في تقرير المصير وهي: الاستعمار التقليدي، والاحتلال أو السيطرة الأجنبية، فضلاً عن التفرقة العنصرية الفجة والصارخة والمتحدة شكل سياسة منهجية منتظمة داخل الدولة، بل إن التطور بشأن هذا المبدأ لم يقف عند هذا الحد، وإنما تجاوزه ليضفي على هذا المبدأ قيمة قانونية تجعل منه أحد المبادئ المتمتعة بوصف القواعد العامة ذات الطبيعة الآمرة في القانون الدولي العام، وهو ما أكدته العديد من القرارات والتوصيات الصادرة عن الأجهزة الرئيسية للأمم المتحدة، فضلاً عما استقر في كتابات فقهاء القانون الدولي وشروحاتهم المُعْتَبرة . ويمكن تعريف القاعدة القانونية الآمرة بأنها "كل قاعدة تقبلها الجماعة الدولية في مجموعها وتعترف بها باعتبارها قاعدة لا يجوز الإخلال بها، ولا يمكن تعديلها إلا بقاعدة قانونية جديدة من قواعد القانون الدولي لها نفس الصفة" . أما عن ماهية مبدأ الحق في تقرير المصير: فقد تعددت التعاريف واختلفت المضامين المُعطاة لحق تقرير المصير نظراً لطول الفترة التاريخية التي مر بها منذ بداية ظهوره، وحتى النص عليه في ميثاق الأمم المُتَّحِدَة وقراراتها المتعاقبة، ونظراً لاختلاف المنطلقات الأيديولوجية والمصالح السياسية للدول، حيث نادى الرئيس الأمريكي "مونرو" بتبني مبدأ حق تقرير المصير بعد أن اعتبرته الثورة الفرنسية مبدأً سياسياً، وعرف فيما بعد باسم "مبدأ مونرو"، ونص هذا المبدأ على رفض التدخل الأجنبي في أمريكا، ويقصد بالتدخل الأجنبي صد محاولات أوروبا الاستعمارية في أمريكا الجنوبية . وجدير بالذكر أن هناك عدداً من علماء السياسة يرون أن مصطلح حق تقرير المصير هو مصطلح سياسي دولي، فتعرفه العلوم السياسية بأنه حق لكل مجتمع له هوية جماعية متميزة، مثل الشعب أو المجموعة العرقيَّة، يقوم من خلاله بتحديد أهدافه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وأن يختار النظام السياسي الذي يناسبه، من أجل تحقيق رفاهيته ومتطلباته، وإدارة حياته دون أي تدخلات أجنبية؛ بمعنى آخر يحق لكل شعب من شعوب العالم أن يحكم نفسه بنفسه، وأن يختار نظامه السياسي والاقتصادي دون قهر أو ضغط من الأنظمة السياسية الأخرى . ولا شك أن الهدف من ممارسة الشعوب حق تقرير المصير والاستقلال يتمثل في إقامة دولة مستقلة ذات سيادة أو الارتباط ارتباطاً حراً بدولة مستقلة، أو الاندماج في دولة أخرى أو اكتسابه مركزاً سياسياً آخر يحدده بنفسه، وبحرية مطلقة، وعليه فهذا كله يتم سواء عن طريق اللجوء إلى الوسائل السلمية أو استخدام القوة "الوسائل القسرية" . وأخيراً يمكن القول إن مبدأ الحق في تقرير المصير لا يزال من المبادئ الحاكمة والأساسية في العلاقات الدولية - رغم محاولات الولاياتالمتحدةالأمريكية في إنكاره على أبناء الشعب الفلسطيني- وفي ذات الوقت يشكل الحق في تقرير المصير أحد قواعد القانون الدولي الآمرة، التي لا يجوز مخالفتها أو الاتِّفاق على ما يناقضها، سواء من قبل الدول، أو بواسطة الهيئات الدولية، إضافة إلى أن حق تقرير المصير يرجع إليه الفضل في حصولِ أغلبية الدول على استقلالها؛ حيث كانت تستند إليه الدول في كفاحها ونضالها المرير ضد الاستعمار ومن ثم فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية تفتئت على القانون الدولي العام بإنكار هذا الحق على أبناء الشعب الفلسطيني من خلال استمرار تأييدها المطلق للكيان الصهيوني في جميع هيئات منظمة الأممالمتحدة خاصة مجلس الأمن الدولي . * مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والاقتصادية جامعة بني سويف المصدر: الخليج 10/1/2015م