الموفد الامريكي الخاص الى السودان( سكوت غرايشون) حرص فى لقاءه مع مسئولين جنوبيين فى واشنطن الاسبوع الماضي عقب ظهور نتيجة الانتخابات السودانية و نيل الرئيس البشير ثقة الناخبين السودانيين وإحرازه لنسبة 68.24% من أصوات الناخبين ليتولي الرئاسة – هذه المرة- بسند شعبي مقنن ،حرص غرايشون على القول ان هذا الفوز لا اثر له على الملاحقة الجنائية من محكمة الجنايات الدولية! غير ان غرايشون و فى ذات السياق حرص ايضاً على القول ان هذه الملاحقة فى المرحلة المقبلة (ليس أولوية) وإنما الأولوية لحل الازمة فى دارفور حلاً نهائياً سلمياً وحل ما تبقي من قضايا عالقة بشأن جنوب السودان من ترسيم للحدود و تطبيق اتفاق ابيي وإجراء الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب . و بالإمكان فهم ما رمي اليه غرايشون بوضوح فهو حرص على ارضاء الطرفين ،الطرف الذى يلح على ملاحقة البشير رغماً عن كل شئ ،و الطرف الذي يقف ضد هذه الملاحقة طالما ان الرئيس – وفى سانحة سياسية نادرة جداً على المستوي الدولي- استطاع ان يدير دفة نظام شمولي الى نظام ديمقراطي تعددي و ان يتصدي لمشاكل بلاده بواقعية و ينجح فى حل غالبها ان لم يكن بأكملها حلاً مستداماً ، ذلك ان اكثر ما تميزت به حكومة البشير طوال العقدين الماضيين أنها لامست عصب القضايا السودانية الاستراتيجية و أوجدت لها حولاً مستدامة . ومن المؤكد سواء من الناحية السياسية و او القانونية ان حصول البشير على شرعية جماهيرية رغماً عن كل ما ألصق به من تهم ،ورغم كل ما لحق بحكومته من تشويه و اتهامات يستلزم الوقوف عنده طويلاً ، فلو قلنا ان الرئيس البشير حصل فقط على اصوات اهل الشمال الجغرافي و الوسط و الشرق فقط و ان أهل الغرب (دارفور و كردفان) والجنوب لم يسهموا فى اختياره لجاز وقتها الزعم بأن للغرب و الجنوب موقفاً سياسياً جهيراً وحاداً تجاه الرئيس ،ولكن الذى حدث ان اهل الغرب وتحديداً أهل دارفور أسهموا بفاعلية فى منح ثقتهم للرئيس البشير وهذه واحدة من اهم نتائج العلمية الانتخابية لأن الكثيرين كانوا يتوقعون فشل عملية الاقتراع فى دارفور سواء بتعطيلها أمنياً من جانب الحركات المسلحة أو بعزوف اهل دارفور عن المشاركة، أو ان يمنحوا أصواتهم – اذا دعا الحال- الى مرشح آخر غير البشير طالما أنه المسئول عن الجرائم التى قيل أنه ارتكبها فى حقهم ، فالضحية لا يمكنه بأى حال من الاحوال ان يمنح ثقته للجاني ، أو ان يعيد اختياره لمرحلة جديدة تمتد لاربعة سنوات و هو يعلم ان لديه ثأر عنده ! وهذا ما يجعلنا نؤكد ان فوز البشير بأصوات اهل دارفور هو فى الواقع بمثابة هزيمة لاتهام الجنائية ومن المستحيل ان يتصور عقلاً ان تتم ملاحقة البشير وقد تحصن بشرعية شعبية شارك فيها أهل دارفور أنفسهم ، ففي هذه الحالة فان الملاحقة تصبح نقضاً لغزل الاستقرار والعملية السلمية فى السودان كله وليس دارفور وحدها ،ولعل هنا تكمن أهمية تصريحات غرايشن بشأن عدم أولوية الملاحقة ،فهو و إدارته على قناعة باستحالة المضي قدماً فى هذه الملاحقة بعد هذه الشرعية ،ولكنهم – لتخفيف ضغط جماعات الضغط- يقولون ان الشرعية هذه لا تؤثر على الملاحقة ! ولعل غرايشن على وجه الخصوص يدرك فى قرارة نفسه ان واحدة من أهم العناصر التي أسهمت فى فوز البشير و السند الجماهيري الى وجده هو مذكرة الجنائية نفسها !