هل يمكن أن يصير الصراع السياسي مطلباً أخف وطأة من الصراع العرقي أو الطائفي أو العقيدي؟ هذا ما قالته بعض التطورات في أنحاء مختلفة من العالم، إزاء ما نشاهده من ويلات الصراع الدموي بسبب الطائفة أو العرق ناهيك عن المذاهب الدينية. ثمة حالات تاريخية قدمت لهذه المقولة بشكل جدير بالتأمل الدائم، ومثالها حالة تقسيم الهند، وكيف حكمت الموقف أولاً المشاعر الدينية والطائفية، لكنها سرعان ما أصبحت في إطار حوار سياسي ديمقراطي عرفت به الهند، لم نشهد بعده أية «آثار دموية»، بينما ظل التكوين العقيدي والطائفي في باكستان مصدر اضطراب للمجتمع والدولة في هذا البلد حتى الآن، بل وبآثار إقليمية مدمرة على نحو ما نرى في أفغانستان..الخ والأحدث من ذلك كانت حالة جنوب أفريقيا مع نظام الأبارتهيد طويل المدى، وما دفع إليه من صراع عرقي بين البيض والسود من جهة، بل والتفاعل على أساس تقسيم صفوف الأفارقة الأصلاء على أساس إثني من جهة أخرى (بين الزولو، والخوسا، والسوتو مثلا..)، ولكن «الحل السياسي» الذي ارتبط بالتحول الديمقراطي أوائل التسعينيات، نقل هذا البلد المهيأ لصراعات طويلة إلى حالة ديمقراطية ليبرالية، تعاني ظواهر – وحتى مشاكل- الانتقال السلمي السياسي بديلاً للحالات الدموية التي جرت في المناطق الأفريقية الأخرى. ولا يعني ذلك تجاهل أن الاختلاط العرقي أو الديني بالسياسي ما زال يثير أعقد الاضطرابات في بعض أنحاء أفريقيا وبشكل أكبر على المستوى العربي. ومن يستعرض الأحداث الأخيرة في بلد أفريقي مثل بوروندي، يستطيع أن يجد تقدماً ملموساً لدور الحل السياسي بعد أن كانت بوروندي ومعها رواندا مثالاً للمجازر البشرية الرهيبة بين (1972/1994)، وجزئياً فيما بعد ذلك حتى عام 2005. لكن المبدأ السياسي الذي فرض مبادئ «الحق والتصالح»، في رواندا بعد مذابح 1994، فضلاً عن التزام القيادة السياسية – نخبة وأحزاباً – ومساعدة القوى الإقليمية بالتدخل المحدود، جعل حالة رواندا تسابق في فرض تقدم مدني، شبه ديمقراطي قائم على «التراضي» على الأقل، وإنْ لم يكن ديمقراطياً تماماً، فإنه يسوي الأوضاع والحقوق الجماعية، وينجز القدر الكبير من المشاركة في إطار تحولات مدهشة، لعب فيها التحول إلى اللغة الإنجليزية بقيم جديدة بديلة للفرنسية، وجعل المرأة التي تحملت عبء الصراع الدموي تحصل على 50%من مقاعد البرلمانات الجديدة. ومنذ حدث هذا التحول أوائل القرن الواحد والعشرين، استطاعت رواندا أن تقفز بسرعة فوق الصراع العرقي الذي عرفت البلاد أبشع صوره. المثال الجديد الآن والذي يقترب من احتمالات النجاح رغم التوتر المتصاعد نسبياً هو الموقف في بوروندي، فهي مثال على سلبيات وإيجابيات «الحل السياسي» الذي نتحدث عنه ولا ننكر شروطه الصعبة لاحتمالات ارتباطه الغالب بالسلوك غير الديمقراطي للقيادات، مهما كان الحل مدنياً أو تحديثياً. في بوروندي البالغ عدد سكانها 10 ملايين نسمة، عاشت أغلبية «الهوتو» في أمان اجتماعي، وفي نظام ملكي غالباً لعصور طويلة قبل الاستعمار البلجيكي، دون معرفة هذه الصراعات الدموية، حتى جاء البلجيك وقسموا الشعب البوروندي الذي يتحدث لغة واحدة هي «الكيروندي»، فحدث الصراع الحاد بين القبائل والأعراق. وبدأ تحديد الهويات النوعية على هذا الأساس، فتعددت الاضطرابات حتى باتت منذ استقلالها 1962موقعاً معروفاً للاقتتال والانقلابات، وباتت تدخلات دول الإقليم (تنزانيا، وأوغندا، وجنوب أفريقيا)، متكررة لوقف نزف الدم الذي تحكمه أحياناً اعتبارات عرقية وأحياناً أخرى الخلافات السياسية. وبدت قدرة العمل السياسي الداخلي والنفوذ الإقليمي، واضحة في إطلاق مبادرات مدنية شبه ديمقراطية من خلال برلمان 2005، الذي وازن بين قدرة الأحزاب والأعراق، كما جاؤوا بالرئيس «بيير نكورونزيزا» القائد السابق لبعض قوى التمرد (من الهوتو)، والمهيمن الفعلي على فصائل المتمردين السابقين، (المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطية) رئيساً للبلاد لمرتين، ولكنه راح يفسد الحل السياسي القائم بترشيح نفسه للمرة الثالثة عام 2015، وليثير بذلك زوبعة سياسية مع المعارضة، والرأي العام وصلت حد إسالة الدماء، والتهديد بمذابح رواندا أو بوروندى السابقة. إزاء الرفض العام لانتخابه في يوليو 2015 رغم إعلان أنه حصل على 67%من الأصوات! وحتى الآن يبدو الأمر متحولاً لصراع سياسي قوي على السلطة، وليس صراعاً عرقياً مما يحقق رغبة الرئيس البوروندي في منافسة الرئيس الرواندي «كاجاما» أو الأوغندي «موسيفيني»، في المنطقة، وتظل القيمة الباقية حتى الآن أن ذلك يتم في إطار حوار سياسي، وبحثاً عن حلول سياسية للتوافق الوطني وليس بالتصميم على إسالة الدماء. ولذا عاد الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والدول المجاورة للتدخل مبكراً من أجل حل سياسي قبل اندفاع رئيس بوروندي إلى حلبة الصراع العرقي أو الطائفي مرة أخرى (إنذار المعارضة بالرد العنيف بعد 13نوفمبر). والمثل الأفريقي هنا وحتى الآن مطروح على الأمة العربية. المصدر: الاتحاد 24/11/2015م