ليست الولاياتالمتحدة هي من يمول الدول الصغيرة، بل إن تلك الدول الصغيرة التي لا يأبه لها أحد هي من يمول الاقتصاد الأمريكي، الذي يسيطر بالقوة والنفوذ على مكامن المال العالمي. هذه الحقيقة التي ناقشها نعوم شومسكي في أكثر من كتاب والتي دللت عليها شهادات اقتصاديين كجون بيركنز، الذي يدعو نفسه ب»القاتل الاقتصادي» أصبحت اليوم مقنعة أكثر من أي وقت مضى. تتلخص القصة في أن الدول الصغيرة تحتاج للاقتراض، وحتى إن لم تكن تحتاج للاقتراض فإنه يسهل على مؤسسة عالمية كالبنك الدولي أو صندوق النقد أن تقنعها بأنها تحتاج لاقتراض بعض الملايين من أجل إنعاش الاقتصاد وتنفيذ مشروعات ذات عائد. الاقتراض من المؤسسات الدولية هو اقتراض غير مباشر من الولاياتالمتحدة وفوائد هذا الاقتراض تعود بالدرجة الأولى للممول الأمريكي، الذي يسيطر تقريباً على هذه المؤسسات. ليس هذا فقط، بل أنه في الغالب سوف يقوم بتنفيذ هذه المشروعات شركات أمريكية، أي أن القرض الذي تمت الموافقة عليه لن يقدم للشركات الوطنية، بل لشركات أجنبية على افتراض أنها أكثر خبرة وعلماً. من الذي يمكن أن يحاسب هذه الشركات ليتأكد من إنصافها ونزاهتها؟ إنها بالتأكيد المؤسسات الدولية ذاتها التي أتت بها! إذن، فالمال الذي يخرج من أمريكا لن يلبث أن يعود إليها، أما المشهد فسيصبح أكثر قتامة، إذا ما أضفنا إليه عامل الفساد الذي يصادف أن يكون مشتركاً بين تلك الدول الصغيرة والضعيفة، والذي يؤدي لأن تكون ما تسمى ب»المشاريع الإنمائية» حكراً على طبقة الدرجة الأولى، لا يستفيد منها إلا الأغنياء الذين هم مقربون بدرجة أو بأخرى من السلطة الفاسدة. الفاسدون في الداخل سيأخذون حصتهم هم أيضاً، كما الدول والمؤسسات الأخرى، بدون أن يكترثوا لتكبيل البلاد بمزيد من الديون والفوائد والغرامات، لأن الفوائد ربوية فسرعان ما ستكون هناك فوائد على الفوائد وعلى أصل المبلغ المقترض، مما يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، سداده. السلطة الحاكمة لن تجد أمامها خياراً سوى رهن أهم مواردها للأجنبي ولمؤسساته، التي ترى في سداد تلك الفوائد أولوية تتقدم على كل شيء، بما فيه توفير الخدمات الأساسية للشعب الذي سيعلق طويلاً تحت مظلة الفقر. هكذا سوف تمول الدول الصغيرة برغبتها، أو بلا وعي منها، مجتمع الرفاه الأمريكي. لكن هذه ليست نهاية القصة بل هناك ما هو أكثر، حيث أن هذه المشاريع ستكون، في الغالب، منفذة بحسب المزاج الغربي، لا بحسب الاحتياج المحلي، فنجدها تهدف إلى تشجيع الصناعة، في وقت يحتاج فيه الناس أكثر للزراعة، وتقوم ببناء محطات للطاقة في وقت يحتاج فيه الناس لعذوبة النهر. ماذا يحدث إذا توصلنا إلى عجز دولة ما عن تسديد ديونها؟ هناك طريقان لحل هذه الأزمة الناتجة عن جشع المستثمرين والمقرضين، الأول هو الابتزاز السياسي بذريعة وعود بإعفاء الديون المتراكمة، مما يضاعف المشكلة ويحول الارتهان من اقتصادي إلى سياسي. أما الثاني فهو المقايضة على طريقة امنحني حق التصرف في مواردك لأعفيك من دينك أو أمنحك فرصة أسهل للسداد. سؤال آخر: ماذا يحدث إن تصادف وجود قيادة وطنية ومخلصة رافضة لكل ذلك، من تلك القيادات التي تحلم بامتلاك قرارها أو إنتاج غذائها ودوائها وسلاحها؟ الإجابة بسيطة، حيث يمكن الضغط عليها من أجل تليين دماغها، فما يعجز عنه الاقتصاد تنجح فيه غالباً السياسة، وما تعجز عنه السياسة تنجح فيه المخابرات ذات الخبرة الواسعة في التخريب وقيادة أعمال الشغب وتدبير الانقلابات. أمريكا هنا تشبه سواها من الامبراطوريات الكبرى التي تعتبر ثروات العالم حقاً مكتسباً تستعد في حال منعت من الوصول إليه إلى الدخول، تحت أي حجة من الحجج، في حرب لا هوادة فيها. هكذا، ومثلما كانت الشعوب الواقعة تحت الأسر الإنكليزي الممول الحقيقي للامبراطورية البريطانية، ومثلما كانت ثروات البلدان الافريقية التي ستعرف لاحقاً ب»الفرانكفونية» وراء تحول فرنسا إلى دولة كبرى ذات قوة ونفوذ لا تتخلى عنه، كانت القوة العالمية الجديدة تنظر للعالم على أساس أنه غنيمتها التي تستحقها بجدارة. بعد الحروب الكبرى تغير العالم ولم يعد مقبولاً الاجتياج والاستعمار على الطريقة الفجة القديمة بحثاً عن الموارد، لكن هذا لا يعني أن الدول الكبرى تخلت عن امبرياليتها، بل يعني أنها وجدت وصفات جديدة تمكنها من متابعة استغلال الموارد القديمة. أحد الأمثلة من التاريخ القريب كانت العلاقة بين بريطانياوإيران في الخمسينيات. بريطانيا التي اعتادت على امتصاص البترول الإيراني منذ نهايات القرن التاسع عشر صدمها أن يأتي محمد مصدق ببدعة التأميم 1951 التي ستحرمها مما اعتبرته لوقت طويل حقها التاريخي، لكن لم يكن أمامها خيار واضح، ففكرة الاحتلال لم تعد مقبولة، ولم يبق من خيار أمام الدولة الكبيرة سوى التدخل، بطريقة ما، لتغيير القيادة الإيرانية الجديدة التي ترفض «التعاون» معها. للتذكير فقد كانت إيران في فترة الأربعينيات لقمة يسيل لها لعاب الدول الكبرى، فالسوفييت يحاولون ضمها والنازيون يحاولون جرها إلى معسكرهم في حين تسعى بريطانيا للتمسك بالثروة الفارسية التي كانت أول من اكتشفها. بريطانيا، وكأي قوة امبريالية جشعة، لم تكن تكتفي بالاتفاقية المجحفة التي وضعتها لتكفل لها الاستفادة من مورد الطاقة الإيراني الضخم تقريباً بشكل مجاني، بل أكثر من ذلك كانت لا تمنح العمال الإيرانيين في مجال البترول أي مزايا مما كان يجعل حتى أكبر الموظفين المحليين يعيش في بؤس وضنك، في الوقت الذي يعيش فيه نظيره البريطاني حياة الرغد والرفاه. قرار مصدق السيادي جعل بريطانيا تصاب بالجنون وبدأ تشرشل يفكر بتهور في اجتياح إيران وهو ما اعترض عليه الرئيس الأمريكي هنري ترومان الذي كان يخشى اندلاع حرب عالمية جديدة. الوضع كان بالغ التعقيد والحرج وترومان كان يحتاج لبريطانيا كحليف مهم خلال الحرب الكورية. هنا لعبت الولاياتالمتحدة اللعبة التي ستنجح فيها دائماً وتجعلها تكسب بذكاء جميع الأطراف، حيث كانت تعلن أنها مع شرعية مصدق وأنها تتضامن مع حق إيران النفطي، في حين أن مخابراتها كانت تعمل بجد بالتنسيق مع نظيرتها البريطانية للانقلاب على تلك الشخصية المزعجة صعبة المراس. كان من أخطاء مصدق أنه تعامل مع الولاياتالمتحدة كحليف مخلص ضد التهديد الشيوعي، وسمح لنفسه بكشف أوراقه الأمنية أمامها لمواجهة التهديد الذي كان يشكله حزب «توده» الشيوعي الناشئ. الولاياتالمتحدة استخدمت كل تلك الأوراق، إضافة للعلاقات التي أنشأتها مع السياسيين في معظم مفاصل الدولة ورجال الدين وحتى البلطجية (البلطجية مهمون دائماً لتفريق التجمعات غير المرغوب بها)، استخدمت كل ذلك ضد مصدق مما سهل مهمة الانقلاب عليه. استخدم الأمريكيون العملاء المحترفين وأعمال الدعاية لتشويه صورة مصدق وإظهاره كموالٍ للشيوعيين، وهو ما كان يكفي لحرق أوراقه الداخلية، في بلد يربط بين الإلحاد والشيوعية، كما كان يكفي لمنع أي تعاطف معه في العالم الغربي. أنفق الكثير من المال لشراء الولاءات وتنظيم الاحتجاجات وأعمال العنف والفوضى من أجل تسليم البلاد لرئيس وزراء جديد لن يوالي بريطانيا بقدر ما سيكون حليفاً للقوة الأمريكية الجديدة التي يقتنع أن بإمكانها أن تحفظ له كرسيه لأطول وقت ممكن. عن طريق محاكمته وسجنه مع الآلاف من أنصاره الذين سيتوزعون بين الاعتقال والنفي والقتل، يكون مصدق، بحسب القوى الامبريالية، قد دفع غالياً ثمن حلمه البسيط بأن تستفيد بلاده من خيراتها. ما نجح في إيران سينجح في اليابان وفي الكثير من دول العالم العربي واللاتيني. سينجح حيثما وجد زعماء مستعدون لبيع أنفسهم وشعوب مقهورة مغلوبة على أمرها. المصدر: القدس العربي 25/11/2015م