المتتبع للخطاب السياسي الأميركي على مدى عقود طويلة، يلاحظ أن مفردات الزعامة والسيطرة على العالم لا تستخدم فيه بشكل واضح، بل يستعاض عنها بمفردات أخرى، مثل «الدفاع عن الحرية والديمقراطية» و«حماية حقوق الإنسان» و«مقاومة الأنظمة الدكتاتورية المستبدة» و«ورفع الظلم والقهر عن شعوب العالم».. وغيرها من المصطلحات التي توحي وكأن لدى الولاياتالمتحدة رسالة والتزامات تجاه شعوب العالم أجمع، تمنحها الحق في شن الحروب وتدبير الانقلابات ودعم المتمردين والانفصاليين في كافة دول العالم بلا استثناء! ولم تكن واشنطن أبداً في حاجة لأن تقول صراحة إنها تتزعم العالم وتسيطر عليه، فقد كان هذا واقعاً ملموساً ومعروفاً للجميع، ولا أحد يجادل فيه. أما الآن، وفي ظل الظروف التي تمر بها من أزمات مالية واقتصادية تتفاقم يوماً بعد يوم ولا أحد يعرف مداها أو يستطيع إيقافها، وفي ظل التورط في المستنقعين العراقي والأفغاني اللذين تسببا في تراجع صورة الولاياتالمتحدة ومكانتها في العالم بشكل ملحوظ، وفي ظل تنامي الصورة السيئة للولايات المتحدة في العالم. وتراجع مكانتها وتخلي حتى حلفائها الغربيين عنها وسعيهم للتخلص من الروابط التي تربطهم بها، وفي ظل تنامي قوى أخرى على الساحة الدولية بشكل يؤثر كثيرا في مكانة الولاياتالمتحدة وهيبتها وقوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية.. في ظل هذه الظروف يصبح الحديث المباشر عن زعامة أميركا للعالم وسيطرتها عليه، ضرباً من ضروب الجهل السياسي، أو محاولة لإخفاء الحقائق المؤلمة عن الشعب الأميركي البائس. الذي يتحمل أعباء الأزمات الطاحنة ويدفع في نفس الوقت من قوت يومه لتمويل الحروب المجنونة غير المبررة، التي تخوضها بلاده على بعد آلاف الكيلومترات عن حدودها. مثل هذا الحديث سمعناه منذ أيام من وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، في كلمة ألقتها في اجتماع الدبلوماسيين وخبراء العلاقات الخارجية في واشنطن. وهي تتحدث عن استمرار الدور «الزعامي» للولايات المتحدة الأميركية في الساحة الدولية، منوهة بأنها ترى أنه من الضروري أن تفرض الولاياتالمتحدة سيطرتها على العالم في القرن الواحد والعشرين. وللتخفيف من حدة التصريحات التي بدا أنه لا أحد من المستمعين مقتنع بها، حيث إن الجميع في واشنطن باتوا لا يطيقون الحديث عن القوة الأميركية التي جلبت للبلاد الأزمات والفقر. وجلبت للشعب الأميركي كراهية معظم شعوب العالم، ارتأت كلينتون أن تعدّل في حديثها، فعادت لتؤكد أنها لا تتحدث عن القوة العسكرية، بل تقصد، كما قالت، القوة «الناعمة»، وليس العسكرية. وهذه، للعلم، أول مرة يستخدم فيها مصطلح القوة «الناعمة» من قبل الشخصيات الرئيسية في الإدارة الأميركية لوصف القوة الأميركية، خاصة وأن واشنطن كانت تصف قوة الدول الكبرى الأخرى بأنها قوة «ناعمة» غير فعالة. واسترسلت كلينتون في حديثها الذي كشف عن حالة التراجع التي تعاني منها الولاياتالمتحدة، حيث قالت إنه «على واشنطن أن تستعين بدول مؤثرة أخرى، وهي الصين والهند وتركيا والمكسيك والبرازيل وإندونيسيا وجنوب إفريقيا وروسيا».هذه الدول التي ذكرتها كلينتون بالتحديد، لم تكن يوماً من الدول المؤثرة، في رأي واشنطن! وعلى ما يبدو فإن كلينتون أدركت أثناء حديثها أنها وضعت روسيا في أسفل قائمة الدول المؤثرة، وأن هذا ربما يفقد حديثها المصداقية والواقعية، فاستدركت هذا الأمر بسرعة، وعادت لتؤكد بشدة على وجوب التعاون مع روسيا، وتقول: «إن كل من يفكر بجد في حل المشاكل العالمية، يعرف أنه لا يمكن تحقيق الكثير في غياب التعاون بين روسياوالولاياتالمتحدة». هذا الحديث من وزيرة الخارجية الأميركية، يعكس بوضوح معالم الأزمة السياسية التي تعاني منها الولاياتالمتحدة الآن بالتحديد، في ظل تراجع مكانتها على الساحة الدولية وانصراف معظم حلفائها الكبار عنها، ورفضهم للتورط معها في مغامراتها العسكرية الفاشلة. حيث بات من غير المنطقي ولا من المقبول الحديث عن القوة العسكرية الأميركية، الأمر الذي تضطر معه واشنطن للبحث عن قوة بديلة. وبما أن القوة الاقتصادية أصبح مشكوكاً فيها بسبب الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، فقد بات الأمر يتطلب من واشنطن البحث عن قوة أخرى تبرر بها زعامتها المشكوك في أمرها أيضا، فلم تجد سوى القوة «الناعمة» الوهمية! رئيسة المركز الروسي الحديث لاستطلاعات الرأي المصدر: البيان 23/9/2010