بصورة عامة ربما بدأ الحراك السياسي العام السائد الآن في السودان طبيعياً بحكم أن البلاد مقبلة على استحقاق انتخابي مفصلي ويعتبر بالمقارنة لكافة الاستحقاقات الانتخابية السابقة مختلفاً تماماً كونه يسبق عملية تقرير مصير لأحد أقاليمه ربما تفضي إلى إنفصاله، وكونه يريد تتويج العمليات السياسية السلمية والحروب الأهلية التي دار رحاها في أرجائه لعقود، بحكومة شرعية منتخبة تنفذ برامج استدامة السلام والتنمية لتضع السودان – بعد طول تعثر وقعود – ضمن منظومة الدول الناهضة. ومن الطبيعي والمفهوم أن تتمايز الصفوف السياسية، وتنشأ التحالفات، ويستعد كل حزب للإمتحان الشعبي، بكل ما قد يقتضيه ذلك من التقليل من وزن الخصوم السياسيين أو انتقادهم، أو مهاجمة برامجهم ورؤاهم السياسية، فكل ذاك مشروع ضمن قواعد اللعبة الديمقراطية وضمن اطار السياج الوطني والشعور العالي بالمسؤولية الوطنية سواء خسر هذا الحزب أو كسب ذاك التحالف، أو نجح هذا وأخفق ذاك، ففي النهاية فإن الهدف هو ترسيخ قواعد متينة لتداول سلمي وطبيعي للسلطة. غير أن ما يتبدى الآن للعيان ويثير المخاوف، أن القوى السياسية السودانية بدأت أول ما بدأت بذات الذهنية القديمة، ذهنية إما أنا أو يغرق المركب. فمن جهة فإن القوى المعارضة أكثرت من طلباتها وهي تعلم أنها طلبات فيها مبالغة واضحة، فما بين من يطالب بالغاء قوانين يطلق عليها مقيدة للحريات دون أن يدري أحد ما هي طبيعة هذه القوانين هل هي النصوص الموجودة في القانون الجنائي سن1991ة التي تحظر اللبس الخليع الفاضح وبماذا سوف تضير هذه القوانين التي ظلت تأخذ مكانها تباعاً في كل قوانين السودان منذ الع1899ام مروراً بالع1925ام ثم الع1974ام ثم الع1983ا، أم هي القوانين التي أجاز البرلمان بدائلاً لها بلغت حوالي (71) قانوناً؟ أم هي القوانين التي تعلم كل القوى السياسية الأغنى عنها مثل قانون الأمن الوطني والشرطة والقوانين المتعلقة بالحريات السياسية؟ ان كان الأمر يتصل بهذه القوانين فإن الذي يتبين له أنها تخالف الدستور الانتقالي سن2005ة فإن المحكمة الدستورية ما انشأت الا لهذا الغرض، وأياً كان ما سوف تقرره فسوف يبقى عنوان للحقيقة وتعبيراً عن الممارسة السياسية الحقة المستندة على قواعد القانون – أما اذا كانت المخاوف مبعثها طريقة اجراء الانتخابات وامكانية تزويرها، فإن من المدهش حقاً ألا يكون بوسع أحزاب كبيرة مثل الأمة، الشيوعي، الشعبي، الحركة الشعبية، الاتحادي الأصل وبعض الأحزاب اليسارية الأخرى أن تحكم سيطرتها – بجماهيرها ومنسوبيها – على مجريات العملية وتسد الثغرات وتتغلب على الاعيب من تظن أنهم يتلاعبون بالعملية، فالمفارقة هنا تكمن في الاحساس المسبق بالضعف، وانعدام الارادة والفشل في متابعة ومراقبة مجريات الاستحقاق للحصول على نتيجة صحيحة، واذا كانت هذه المخاوف من اكتساب الحاكمين الحاليين لشرعية يرى البعض أنهم لا يستحقونها باعتبار أن يكفيهم ما حكموه وما نالوه من سلطة (لعشرين عاماً) فهذا أمر متروك لارادة الناخب السوداني وحده الذي ربما كانت لديه أسبابه في اعادة انتخابهم لأن الناخب السوداني ومهما قيل عنه من أمية وجهل فهو يتحلى بدرجة لا يستهان بها من الوعي والحس السياسي. ماذا إذن تبقى من مآخذ على العملية حتى يرسم لها البعض سيناريوهات قاتمة ويتصورها البعض انهاراً من الدماء والاحتراب، فيبالغون في وصفها ونعتها بشتى النعوت؟ ان الامر في حاجة الى اعادة فهم وتقدير، لأن هذا البلد أقوى بكثير ممن يتعاركون على حكمه!!