هذه تعليقات قيمة للإمام القرطبي في تفسيره المشهور عن قضية يكثر الحديث والجدل حولها ويخطئ الناس في فهما وخاصة ممن تاثروا بالتصوف المتطرف: قال الإمام أبي عبد الله محمّد الأنصاري القرطبي عليه رحمة الله: قوله تعالى: ((قل من حرم زينة الله)) بيّن أنهم حرموا من تلقاء أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم. والزينة هنا الملبس الحسن، إذا قدر عليه صاحبه.وقيل: جميع الثياب؛ كما روي عن عمر: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا وروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب شيخ مالك رضي الله عنهم أنه كان يلبس كساء خز بخمسين دينارا، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدق به، أو باعه فتصدق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع بمصر ممشقين ويقول: ((قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)). وإذا كان هذا فقد دلّت الآية على لباس الرفيع من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان. قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة)). فما أنكر عليه ذكر التجمل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء. وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها. وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد. وكان ثوب أحمد بن حنبل يشترى بنحو الدينار. أين هذا ممن يرغب عنه ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب. ويقول: ((ولباس التقوى ذلك خير)) [الأعراف: 26] هيهات! أترى من ذكرنا تركوا لباس التقوى، لا والله! بل هم أهل التقوى وأولو المعرفة والنهى، وغيرهم أهل دعوى، وقلوبهم خالية من التقوى. قال خالد بن شوذب: شهدت الحسن وأتاه فرقد، فأخذه الحسن بكسائه فمده إليه وقال: يا فريقد، يا ابن أم فريقد، إن البر ليس في هذا الكساء، إنما البر ما وقر في الصدر وصدقه العمل. ودخل أبو محمد ابن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن يسار وعليه جبة صوف، فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد، صوفت قلبك أو جسمك؟ صوف قلبك والبس القوهي على القوهي. وقال رجل للشبلي: قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع، فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط، فأنشأ يقول: أما الخيام فإنها كخيامهم **** وأرى نساء الحي غير نسائه. قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: وأنا أكره ليس الفوط والمرقعات لأربعة أوجه: أحدها: أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة. والثاني: أنه يتضمن ادعاء الفقر، وقد أمر الإنسان أن يظهر أثر نعم الله عليه. والثالث: إظهار التزهد؛ وقد أمرنا بستره. والرابع: أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة.و((من تشبه بقوم فهو منهم)). وقال الطبري: ولقد أخطأ من أثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله. ومن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر. ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض شهوة النساء. وسئل بشر بن الحارث –وهو ممّن ينسب الصوفية أنفسهم إليه (غريب)- عن لبس الصوف، فشق عليه وتبينت الكراهة في وجهه ثم قال: لبس الخزز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف في الأمصار. وقال أبو الفرج: وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة، لا المترفعة ولا الدون، ويتخيرون أجودها للجمعة والعيد وللقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود عندهم قبيحا. وأما اللباس الذي يزري بصاحبه فإنه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله تعالى، ويوجب احتقار اللابس؛ وكل ذلك مكروه منهي عنه. فإن قال قائل: تجويد اللباس هوى النفس وقد أمرنا بمجاهدتها، وتزين للخلق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق ؟! فالجواب: ليس كل ما تهواه النفس يُذمُّ، وليس كل ما يتزين به للناس يكره، وإنما ينهي عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو على وجه الرياء في باب الدين. فإن الإنسان يجب أن يُرى جميلا. وذلك حظ للنفس لا يلام فيه. ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج. وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يذم. وقد روى مكحول عن عائشة قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء؛ فجعل ينظر في الماء ويسوي لحيته وشعره. فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: ((نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال)). وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)). فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: ((إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس)). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة. اه أكل الطيبات وقال عليه رحمة الله تعالى: قلت: وقد كره بعض الصوفية أكل الطيبات؛ واحتج بقول عمر رضي الله عنه: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضرواة الخمر. والجواب: أن هذا من عمر قول خرج على من خشي منه إيثار التنعم في الدنيا، والمداومة على الشهوات، وشفاء النفس من اللذات، ونسيان الآخرة والإقبال على الدنيا، ولذلك كان يكتب عمر إلى عمال: إياكم والتنعم وزي أهل العجم، واخشوشنوا. ولم يرد رضي الله عنه تحريم شيء أحله الله، ولا تحظير ما أباحه الله تبارك اسمه. وقول الله عز وجل أولى ما امتثل واعتمد عليه. قال الله تعالى: ((قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)). وقد مضى في ((المائدة)) الرد على من آثر أكل الخشن من الطعام. وهذه الآية ترد عليه وغيرها: والحمد لله. انتهى كلامه عليه رحمة الله بتصرف قليل.