من المؤكد أن لرمضان نكهة خاصة فى وسائل الاعلام ، ولكن هل إستطاع الخطاب الدينى فى هذه الوسائل إعطاء الشهر حقه ؟ يشمل النقد الجانب الايجابى والجانب السلبى معاً ، وإن كان الامر يميل الى الجانب السلبى ، وليس هذا خروج عن قواعد النقد ولا عن مفهومه بقدر مافيه وصف للواقع وآثاره الواقعية على المخاطبين . ونقصد بالخطاب الدينى ذلك التوجه بالكلام المسموع والمرئى والمقروء فى الاذاعة والتلفزيون والصحافة ونقصد بالدينى هنا ماكان متعلقاً بالدين . تمثل الصحافة المقروءه جزءاً من الاعلام المؤثر، وفى رمضان تفرد معظم الصحف صفحة أو أكثر للكلام عن الدين والموضوعات التى تثار فيها غالباً ما تكون حكاية تاريخية مما يصور الدين فى أذهان الناس على أنه تراث ماض وأن الدين جزء منفصل بذاته عن سير الحياة وأن الحضارة الاسلامية عمل ماض قد توقف ، أن أمثلة الموضوعات المثاره والمكتوب عنها تتمثل فى حياة الصحابة أو الخلفاء الراشدين أو فى تراجم العلماء الماضين من السلف الصالح ، أو حتى القيادات السياسية والعسكرية ، فنذكر صلاح الدين وعين جالوت وأفكار ابن خلدون دون النظر الى استمرار تلك الحضارة أو كيفية إعادة قيادتها ، أو محاولة إدراك الواقع وإيجاد آليات إدراكه بالدقه المراده والتشوق إليها لدى جميع المسلمين ، مفكريهم وعلمائهم وعامهم وخاصهم ، لا نجد فى الصحافة خلال شهر رمضان كلاماً حول الازمة الفكرية فى العالم الاسلامى بما فيه السودان ،لا فى أسبابها ولا فى عناصرها ولا فى كيفية حلها ، ولا نتكلم عن كيفية إدراك النص الشرعى من خلال مشكلات العصر و الرؤية الكلية لقضايا المسلمين على مستوى أمة الدعوة من الناحية العالمية أو أمة الاجابة وأعنى بها المسلمين ، وفى ظل المتغيرات الكونية التى أصبحت الارض معها كقرية واحده هذه الحالة تكون مخاطباً من نوع معين له إدراك محدد عن الدين ، وهذا النوع يرى تلك المكونات التى أشرت اليها من مكونات الدين تراث ماض ، وأنه منفصل عن باقى جوانب الحياة وأن الحضارة قد توقفت مثل هذه النفسية والعقلية تجعل الشخصية المسلمة قابلة للانبهار بالآخر ، عاجزة عن الابداع شاعرة بعدم الثقة بالنفس ، وما يترتب على كل ذلك من تداعيات تصل بالمتلقى الى فصام العقيدة التى تستقر فى الوجدان من قراءة القرآن ومن التعليم الاكاديمى الدينى ومن الدعوة من على المنابر وفى المساجد وبين النظام الذى يعيشه قارىء الصحيفة والرؤية التى تستقر عنده من جراء الصفحة الدينية . وبشكل عام يمكن القول إن الصفحات فى رمضان تتميز بعدة خصائص هى : فتاوى وأحكام موضوعاتها تدور حول الطلاق واحكام الزواج والميراث وقليلاً من البيوع وكثيراً من أحكام العبادات ، دون الكلام عن النظم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو نظام القضاء ونظام الامن والصحه و التعليم ونحوها ، كذلك موضوعات العبادة والاخلاق والتزكية واذا ما تعرض الكاتب للموضوعات المثاره فإنه يتعرض لها بصورة جزئية مثل موضوع المرأه أو البيئة أو الطفولة أو التكافل الاجتماعى ، وليس بصوره مؤسسية أو لوضع وصياغة مبادىء يمكن بها مواجهة الحياة وإدراك واقعها والتعامل معها بناءً على العقيدة الدينية ، كذلك هنالك أخبار حول أحداث واقعة أو مؤتمرات ولقاءات وهى عادة ما تكون منحازه بحسب الصحيفة وتوجهاتها السياسية ، ومدى حرية النشر سواء أكانت حرية نشر الافكار أو نشر الاخبار او الوقائع ، هذا إضافة لخدمات حول النشر عرض كتاب ونحوها وهذه الخدمات لم تصل فى شهر رمضان الى مستواها للدلالة على مثيلاتها فى الصحافة السيارة وهى مازالت باهته ولم تأخذ مكانها المرجو لها . وعلى الرغم من هذه الحالة فإن الجرعة التى تشتمل عليها تلك الصحف فى صفحاتها الدينية اليومية ينتظرها الناس كل عام ، وعلى الرغم من سطحية المعلومات المعروضة ، وإعادة نشر أحداث تاريخية مكرره الا أنها ساهمت كثيراً فى تعليم الناس بعض أمور دينهم ، وهذا القدر البسيط السطحى المنحصر فى مجال معين يبقى الدين فى ذاكرة الناس فى عصر خلا فيه الاسلام بل وكثير من مناهج التعليم من التوجه الدينى حتى شاع الجهل ، حتى الاحكام التى كانت معلومة فى السابق من الدين بالضرورة وتقوم وسيلة الاعلام الثانية الاذاعة فى رمضان ببث العديد من البرامج والمسلسلات والخدمات ، أما البرامج الدينية فى الاذاعات التى لم تخصص لإذاعة القرآن الكريم فتمثل مالا يزيد على نصف ساعة فى اليوم من الاربعة والعشرين ساعة ، وفى رمضان تزيد هذه المدة الى ساعتين أو ساعتين ونصف فى المحطات ، وينحصر موضوع البرامج فى الموعظة الحسنة وكثيراً ما تقوم الاذاعة بإستعمال التسجيلات التى جمعتها للعلماء الراحلين ، وهذا يوضح نظرة متخذى القرار فى تلك الاذاعات لمفهوم الدين كما يبين أزمة الابتكار فى أسلوب الخطاب ، وأزمة إدراك آليات التعامل مع الواقع المتغير. أما المسلسلات فإنها تكرس توقف الحضارة بحديثها عن الماضى بأمجاده دون الكلام عن الحاضر ولا مشكلاته ولا كيفية التعايش معه ولا القاء الضوء على المبدعين والمفكرين والقادة فى عصرنا الحاضر كأمثلة وأسوة حسنة ، تشعر السامع بأن الخبر باق وأن تطبيق مبادىء الاسلام ورؤيته ممكنة وأن العالم يحتاج اليها وأن لدينا شيئاً يخرج الانسان من الضلال الى النور، كما أن لغة هذه المسلسلات تنحصر فى لهجة عربية غريبة لا أظنها كانت موجودة ويعرفها الكثيرون حيث يأمر المخرج المؤدين بنبر فى الكلمة أو الجملة تجعل اللغة فى غاية السذاجة واستحقاق السخرية منها ، وتبقى الخدمات التى تقدمها الاذاعة فى شهر رمضان كالآذان ونقل الصلوات واذاعة القرآن ، فمن المؤكد أنها تعطى جواً لشهر رمضان يجعله متميزاً عن باقى الشهور وهذا فى حد ذاته يروق لعموم الناس ، ويلبى ما تعودوا عليه من ذكريات وما شبوا عليه من تمتع بمثل ذلك الجو الثقافى أكثر منه دينياً ، ومع هذا الخطاب نفسه يكثر وجود المسلسلات غير الدينية أو التاريخية المعتاده التى تسلى الصائم بالليل والنهار وهى أكثر تشويقاً وانتشاراً من المذياع . ومما لا شك فيه أن التلفزيون أصبح سلطة كسلطة المعرفة والتلفزيون وما يقدمه من خطاب دينى فى شهر رمضان نراه ينطلق من أفكار عدة حول هذا الشهر الكريم لدى كل من يشارك فى خروج ما يقدم حتى يصل الى عموم الناس ومشكلة تلك الافكار أنها تتعامل مع الصيام على أنه عاده أكثر منه عبادة ، وأنه عباده مؤقته وأن الصيام حرمان وبالتالى يستلزم هذا الحرمان مساعدة الصائم على قطع الوقت تحت شعار سلى صيامك ، وأخيراً إن الصيام بما أنه حرمان لابد بعد ترفيه يعوض ما كان فى النهار وأنه من العدل عندهما أن يعقب الحرمان ذلك النوع من الترفيه الذى يقدم بكل صوره ،هذه الافكار تنطلق من حالة معرفية يعيشها أولئك الناس إبتداءً من المنفذ الى المخرج والممثل ومقدم البرنامج وإنتهاء بمتخذ القرار وواضع السياسة لمحطة التلفزيون المرئية مروراً بالكاتب والسينارست بل والمفكر والمعد ، وهذه الحالة شائعه وهذه حرية الناحية المعرفية التى تقرر بالنسبية المطلقة فيصبح الدين أحد الخيارات وليس بحثاً عن الحق وتحصيلاً للحقيقة وهذه الحالة يترتب عليها عدم جواز إدعاء انحصار الحقيقة لدى الاسلام ، ولا يحق لاحد أن يزعم استئثاره بهذه الحقيقة ، ويؤمن هذا التفكير بأن الحرية وليس الالتزام أصل التعامل بين الناس مما يترتب عليه اختلال فى مفهوم الحرية أيضاً وعدم وضع فاصل بين الحرية والتفلت ، ويؤدى الى اختلال مفهوم الحرية ، مع ملاحظة أن النموذج المعرفى الشائع والمسيطر على متخذى القرار وسلسلة التنفيذ يجعل الخطاب الدينى الاعلامى خاصة التلفزيون يسبب أزمة الرفض وعدم التفاعل بين المتلقى وبين الجهاز ويسبب ضائقه بين الحيره وعدم الرضا ، تتسع حتى تصل الى ضلال العنف غير المبرر من بعض الجماعات ، وتضيق الحلقة حتى يفقد الملتزم بدينه وغيره توازنه وقدرته على الابتكار والابداع ويظل النقد من خلال ذلك مستمراً بين الطوائف للخطاب الدينى فى بنيته وبيئته ، ويحدث ذلك فى شكل التنفيذ ووضع برنامج الشهر وبرنامج اليوم واسلوب الاداء وكلها تصل بنا الى أصول تلك الافكار التى أشرت اليها من ناحية والى النموذج المثالى الراقى الذى تقوم عليه العبادة وخاصة فى شهر رمضان، ويمكن القول إن مايقدم من خطاب دينى فى التلفزيون فى المسلسلات الدينية والتى توقف الاسلام على عصور بعينها مع سذاجة العرض وفساد المضمون فى الاغلب الاعم مع وضع هذه المسلسلات فى أوقات لا تسمح بسهولة رؤيتها منتصف الليل أو عند صلاة التراويح ، اما الاخبار فلا تختص بها سوى المحطات التى تخصصت فى الاسلاميات وهى ليست موضوع المقال ، ثم الخدمات مثل الاذان ونقل الصلاة والاعلانات وهى تحدث ذلك الجو الرمضانى الذى يجعل الشهر مفضلاً ومحبوباً فى نوره وعبادته . هذه الصوره التى أشرت اليها أولاً توضح بأن النقد وان كان ذكر الايجاب والسلب الا اننا نجد السلب ظاهراً اذا ما قومنا الخطاب الدينى من خلال معيار الشرع الاسلامى ، والمفاهيم الاسلامية التى تستفاد من القرآن والسنه والاجماع ، فيما يمثل هوية الاسلام ورؤيته الكلية للانسان والكون والحياة وما قبل ذلك وما بعد ذلك ، أما الناحية الفنية لكل ما مر فإنه يظهر جلياً التخلف الفنى والتكنولوجى وتخلف أساليب العرض والتشويق فى كل جزئيات الخطاب الدينى ، بصوره لا تصح معها المقارنة ولا يتردد فيها أحد لا من القائمين عليها ولا من المنتقدين لها حتى خارج المعيار الاسلامى ، ويتمثل ذلك فى تخلف معينات الاخراج والاعداد والتقويم مما أثر سلباً على الخطاب الدينى الذى ظل محدود الغرض ، رغم اتساع مادته التى اساسها الاسلام ، اللهم تقبل صيامنا واجعلنا من عتقاء هذا الشهر المبارك .