نظمت هيئة الأعمال الفكرية مساء الخميس الماضي (8/10) بقاعة الشهيد الزبير حلقة نقاش فريدة لكتاب صدر حديثا: الانفصال ومهددات الاستقرار في الجنوب، لمؤلفه الدكتور واني تومبي أستاذ التنمية الريفية والقانون بجامعة جوبا، وذلك بمناسبة معرض الكتاب الذي تنظمه وزارة الثقافة والشباب والرياضة في أرض المعارض ببري. كان الحضور متواضعاً ولكنه نوعي من الشباب والكهول، وهيئة الأعمال الفكرية مشهود لها بعرض القضايا الفكرية غير المعتادة في الساحة الثقافية وبنوعية من يحضر تلك المنتديات الراقية. ترأس الجلسة الشاب آدم سعيد كباوا من الاستوائية والذي يتولى إدارة مركز أمين جلة للدراسات والبحوث، وهو من خريجي جامعة إفريقيا العالمية. والكتاب عبارة عن مقالات نشرها الدكتور واني في جريدة «سودان فيشن»، وقام مركز دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا بترجمة المقالات إلى اللغة العربية ونشرها في كتاب تحت العنوان السابق في ديسمبر 2008م، وأجاد الأستاذ محمد الفاتح زيادة ترجمة المقالات بدقة ولغة عربية رصينة. ورغم أن المنابر الثلاثة التي احتفت بالكتاب تعتبر قريبة الصلة من حزب المؤتمر الوطني، إلا أن ذلك لا يقدح في قيمة الكتاب العلمية فقد كتب بلغة موضوعية هادئة وإن أثار شبهة الانحياز السياسي للمؤلف. اشتمل الكتاب على خمسة فصول هي: خيار الانفصال: المثالب والمخاطر، الأسباب الحقيقية لتخلف الجنوب، الجنوب والمرض الثلاثي: القبلية والعنصرية والفاشية، الشباب والدور الرائد، العلاج الأكمل لتخلف الجنوب. بدأ الكاتب معتذراً للحضور عن ضعف لغته العربية لأنه عاش فترة طويلة في أوربا، ولكني وجدتها معقولة وسلسة وإن كانت أقل من الفصحى ولكنها أعلى بكثير من عربي جوبا! ركز الكاتب استعراضه في نصف الساعة التي منحت له على الفصل الأول من الكتاب الذي يتحدث عن مثالب ومخاطر الانفصال بالنسبة لجنوب السودان. لخص أسبابه في عدم موافقته على انفصال الجنوب في الآتي: أولا: أن الجنوب ليس إقليماً موحداً ومنسجماً فهو يعج بالاختلافات العرقية والثقافية واللغوية والدينية، ولم يكن الجنوب يقف متوحداً إلا في مواجهته للشمال بصفته «العدو المشترك» لكل مكونات الجنوب العرقية. ثانيا: أن البنى التحتية في الجنوب، مادية وبشرية، التي يمكن أن تؤسس لدولة مستقلة غير متوفرة ويحتاج الجنوب إلى زمن طويل لتأسيس البنية التحتية المادية وتدريب البشر على كل قطاعات المهن وكوادر الخدمة المدنية المختلفة. ثالثا: ويتساءل المؤلف عن ما هي الأهداف والخطط التي يرجو دعاة الانفصال تحقيقها في دولة منفصلة ولا يمكن تحقيقها في ظل الوحدة؟ ويظن أن اتفاقية السلام الشامل وفرت للجنوب استقلالاً سياسياً في إدارة الإقليم واقتصاديا وعسكريا، وفي ظل هذه السلطات والإمكانات يمكن لحكومة الجنوب أن تحقق ما تشاء من تنمية بشرية واقتصادية واجتماعية وثقافية تحت مظلة الوحدة الفيدرالية مع الشمال. رابعا: ويتوقع المؤلف أن لا يظل الجنوب بعد الانفصال موحداً أو ينعم بالسلام أو الاستقرار، فإن مؤشرات الصراع القبلي التي بدأت في السنوات القليلة الماضية سيزداد انتشارها وحدتها بعد الانفصال. وليست ساعة مندم! وعند نهاية استعراض دكتور تومبي لأطروحته فتح باب النقاش لبعض المعلقين المخطرين مسبقاً وهم: الطيب زين العابدين الأستاذ بجامعة الخرطوم، عبد الله دينق نيال الأستاذ بجامعة جوبا والناشط السياسي في حزب المؤتمر الشعبي ولكنه اعتذر عن الحضور وأناب بديلاً له الأستاذ قمر الدولة محمد سليمان وزير الشئون الاجتماعية سابقا في ولاية بحر الجبل وأمين الحركة الإسلامية في جوبا (لا أدري إن كان موقعه حاليا في الوطني أو الشعبي أو مبتعداً عن كليهما!)، الدكتورة مريم الصادق المهدي القيادية في حزب الأمة القومي. ثم فتح باب التعليق والنقاش لجمهور الحاضرين الذين كان على رأسهم د. إبراهيم الأمين و د. بركات موسى الحواتي و د. ربيع عبد العاطي وآخرين. أمنت في مداخلتي القصيرة على نقاط المؤلف الثلاث الأولى وهي: التنوع الكثيف بين مكونات الجنوب العرقية والثقافية ربما أكثر من تنوع الشمال، غياب البنية التحتية التي يمكن أن تؤسس لدولة مستقلة في الجنوب، وأن حكومة الجنوب تستطيع أن تنجز الكثير في ظل الوحدة الشكلية القائمة بين الشمال والجنوب مع بقاء «العدو المشترك» حافظاً لوحدة الجنوب! أما تفكك الجنوب إلى دويلات فيظل احتمالاً وارداً وإن لم يكن راجحاً، ويعتمد ذلك على إدارة التنافس السياسي والقبلي بين النخب الجنوبية، لكن مصلحة الجميع في بقاء الإقليم موحداً إذا حسنت إدارة دفة الصراع السياسي. ورجحت أن الانفصال قادم لا محالة حسب قراءة المؤشرات السياسية الحالية، ومن الحكمة الاستعداد له. وأن أسوأ السيناريوهات هو حرب بين الشمال والجنوب بسبب اختلاف الرؤى بين حكومتي الشمال والجنوب في معالجة مشكلات ما بعد الانفصال (اقتسام مياه النيل، اتفاقيات النفط وديونه وعائداته وترحيله وتصفيته، ترسيم الحدود، الوجود الجنوبي الأهلي في الشمال والشمالي في الجنوب، الوجود الجنوبي الوظيفي في القوات المسلحة والأمن والشرطة والقضاء والخدمة المدنية، ديون السودان الخارجية)، واقتتال الجنوبيين فيما بينهم بسبب الصراع القبلي والتنافس السياسي. وأحسب أن الأفضل لكلا الشطرين أن يحدث فراق بمعروف حتى يكون بداية لجوار حسن وتعاون مثمر يستمر لسنوات طويلة، والفراق المتوتر المضطرب سيقود إلى احتكاكات ونزاعات لا تنتهي وإلى عدم استقرار في الشمال والجنوب. والفراق بمعروف يحتاج إلى فترة تهدئة وسلام وتعايش مشترك تسمح للجنوب بأن يستعد لإقامة دولته المستقلة أو تقنعه بالعودة إلى وحدة واضحة المعالم والحدود ومتوازنة في علاقاتها وعادلة في اقتسامها للسلطة والثروة بصورة متكافئة. وقد يتأتى ذلك عن علاقة كونفدرالية بين الجنوب والشمال لكل طرف فيها استقلاله التام في إدارة شئونه بما فيها العسكرية والعلاقات الخارجية، وداخل كل كيان تقوم مناطق فدرالية تقوم على ذات المديريات التسع (ست في الشمال وثلاث في الجنوب) التي أسسها الاستعمار البريطاني، وينشأ مجلس رئاسي خماسي يمثل فيه الجنوب بعضوين والشمال بثلاثة أعضاء تكون له سلطات رمزية سيادية ولا يتدخل في الشئون التنفيذية التي تخص حكومة كل شطر، وتتكون هيئة تشريعية قومية للدولة الكونفدرالية من نواب المجلسين التشريعيين في الشمال والجنوب على أن يكون عدد النواب لكل إقليم بقدر حجمه السكاني. وأحسب أن فترة ثلاث سنوات أو أربع كافية لهذه الفترة الانتقالية الثانية التي ستقوم على معادلة جديدة مختلفة عن اتفاقية السلام الشامل، ويحدث في نهايتها استفتاء لكلا الإقليمين إن يريدا الاستمرار في العلاقة الكونفدرالية القائمة أم يريدان تعديلها إلى صيغة أقوى أو إلى انفصال كامل، وينبغي موافقة المواطنين في كلا الإقليمين على الصيغة التي يؤخذ بها.