تجد البشرية اليوم نفسها مواجهة بأسئلة مصيرية ،وتحديات مثقلة ، ومشكلات متتابعة لا تزيدها الأيام إلا تعقيدا وجهالة بما ستتركه من آثار على مستقبل الحياة والكون والإنسان. ولا شك أن درء الشرور والآفات عن العباد عمل جليل لكنه مرهون بعقلاء الناس فهم الأبصر بعواقب الأمور ، والأقدر على استكشاف مواطن الخطر ولذلك قال لوط عليه السلام لقومه (أليس منكم رجل رشيد). وما تشكوه البشرية اليوم من تفكك اجتماعي وتسيب أخلاقي وتلوث بيئي يوجب على كل عاقل أن يسهم بدوره في إنقاذ الحياة الإنسانية من المصير المشؤم الذي ينتظرها مالم تدراك نفسها بالمعالجة والتصحيح. والمسلمون كقطاع عريض يعمر هذه الأرض مطلوب منهم أن يشروحوا للعالم حقيقة دعواهم في امتلاك تصور قادر على أن يقدم مشروعا مجديا ، يخرج الناس من التيه الذي يتخبطون فيه ، وأظن أن الخطوط العريضة التي تستند عليها دعوى المسلمين في امتلاك تصور صحيح منقذ يمكن أن نجملها في الآتي : أولا: الرسالة الإسلامية الحضارية رسالة تستمد قوتها وقدسيتها من دين محفوظ ووحي معصوم لم تمتد إليه يد البشر زيادة أو نقصا ، والله الذي أنزل هذا الدين هو الذي كون الأكوان وخلق الإنسان وعلم ما يصلحه وما يشقيه (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) ثانيا: الرسالة الإسلامية الحضارية رسالة تتعامل مع سنن الله الكونية تعاملا جادا مبصرا ، فهي تسايرها وتستعملها وتوظفها ولا تهمل شيئا منها أو تصادمها، وعليه فلا يتصور أن تقف السنن الكونية مغالبة لمشروع الإسلام الحضاري. ثالثا: الرسالة الإسلامية رسالة تنفتح على العقل البشري والحكمة الإنسانية ، وتعتقد أن هذا الإنسان مخلوق مبدع بما وهبه الله من قدرات وإلهامات وهدايات ، وواجبنا أن ننتفع بكل حكمة إنسانية متى ما ثبت بالدليل صوابها لا يضرنا من أي وعاء أو زمان صدرت. رابعا: الرسالة الإسلامية الحضارية رسالة عالمية تساير العصور والأمم وتتسع لكل المطالب وتستوعب أنماطا شتى من المعارف والأذواق والعادات. الرسالة الإسلامية رسالة إنسانية تعتني بكل ما يحقق صلاح هذا الإنسان وسعادته في معاشه ومعاده ، ودينه ودنياه. فهي توجب على الفكر الإسلامي أن يكون فكريا متعديا يتعلق بالآخر بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه. ومن هنا كان صلاح هذا الإنسان قضية محورية في رسالتنا الحضارية ، فكل ما من شأنه أن يرتقي بإنسانية الإنسان وينميه هو جزء أصيل من واجباتنا التي لا نعذر بالتقصير فيها،وهي المساحة الواسعة التي نلتقي فيها مع كل صاحب نظر وفكرة ودين متحاورين في الأخذ بالأصلح ومتعاونين على المتفق عليه من أعمال البر عملا بقول الله جل وعلا (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عن حلف الفضول وهو حلف إنساني قام في الجاهلية (لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت). وتأسيسا على هذا المنطق فإننا - وبقدر ما نعترف لها بفوائد جمة - ننكر بملء أفواهنا ما جرته حضارة العصر على الإنسان من ويلات وشقاء ،بسبب ماديتها الطاغية فأي خير في تنمية تراكم الموراد والانتاج وتهمل القيم والأخلاق ،وأي خير في تواصل يقارب بين العوالم الخارجية ويهدد في الوقت ذاته مؤسسة الأسرة بالفناء والبيئة بالخراب !. هذه خطوط عريضة تعزز من أحقية السملين في أن يتقدموا بمشروع حضاري متميز يسهم في الارتقاء بالحياة الإنسانية (تزكية وتنمية ، وروحا وبدنا) ، ولكن سيبقى السؤال الذي يبحث عن جواب مقنع هل يمكن أن يتجاوب عالم اليوم مع فكرة نظرية لا تتمثل في الواقع المعاش أو يكون لها حضور قوي في نفوس معتنقيها؟