بقلم: عصام درباله - الجماعة الإسلامية مصر تطبيق الشريعة الإسلامية يعد أملاً لملايين المسلمين في بقاع العالم المختلفة, ويقف في وجه تحقيقه عقبات بعضها ينبع من داخل الدول الإسلامية نفسها والأكثر يأتي بفعل القوي الخارجية المهيمنة على النظام الدولي. وفي هذه الدراسة سنستعرض الموقف الأمريكي من تطبيق نظام ثورة الإنقاذ للشريعة الإسلامية في السودان والذي بدأ بعد اعتلائها لسدة الحكم في يونيو سنه 1989م. وسنحاول عبر هذا النموذج الواقعي تتبع قضية تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان الشقيق منذ قيام ثورة الإنقاذ في سنة 1989م في ظل بروز الإستراتيجية الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في سنة 1991 الهادفة إلي الهيمنة على العالم, والساعية إلي تسييد قيم الحضارة الغربية على حساب الهوية الإسلامية والتي جعلت على رأس أولوياتها القضاء على الخطر الأخضر أو الأصولية الإسلامية. فقد أدت المستجدات إلي اضطرار نظام الإنقاذ بقيادة المشير عمر البشير إلي قبول عدم تطبيق الشريعة الإسلامية على الجنوب السوداني, ومازال التفاوض قائما حول تطبيقها في أماكن أخري كالخرطوم العاصمة وجبال النوبة وأبيي وجنوب النيل الأزرق. ولأن في عرض هذه التطورات فوائد كثيرة يمكن أن نجنيها, فسوف نسرد قصتها بشيء من التفصيل لأكثر من سبب: فأولا: تفصح هذه القصة عن الضغوط الرهيبة التي تتعرض لها أي دولة ترغب في تطبيق الشريعة الإسلامية, مع ملاحظة أننا ليس بصدد تقييم تجربة تطبيق الشريعة بالسودان, والتي قد نختلف معها في عدة أمور ليس هذا موضع بيانها. وثانياً: توضح هذه القصة الدور الأمريكي المناوئ لقضية الشريعة في السودان وتبين الأساليب التي تتبعها أمريكا في هذا الصدد, مع ملاحظة أن الموقف الأمريكي من تطبيق الشريعة أحياناً ولأغراض مصلحية قد يتسم بالإيجابية أو غض الطرف. ثالثاً: تسهم معرفة كل ما سبق في تحديد الحكم الشرعي المناسب على أي دولة تتعرض لمثل هذه الضغوط, وهل يجب جهادها إذا لم تقم بتطبيق الشريعة كاملة أو لا؟ وللإجابة عن هذا السؤال وغيره نستعرض في هذه السطور تطور الأوضاع في السودان منذ بداية ثورة الإنقاذ في يونيو سنة 1989م حتى يومنا هذا ثم نستعرض بعد ذلك الموقف الأمريكي من النظام الحاكم في السودان, وأثر كل ذلك على تطبيق الشريعة الإسلامية به. تطور الأوضاع بالسودان منذ ثورة الإنقاذ الإسلامية في سنة 1989م وحتى الآن: نجحت بعض وحدات من الجيش السوداني بقيادة الفريق عمر البشير والمدعومة- سرا .. سياسياً وشعبياً- بالجبهة الإسلامية القومية بقيادة الدكتور حسن الترابي في إسقاط حكومة الصادق المهدي, واستباق عقد اتفاق بين حكومة الصادق المهدي وجون جارانج زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان في مؤتمر قومي كان مزمعاً عقده في 18/9/1989 يخصص لحل مشكلة الجنوب. واعتبرت ثورة الإنقاذ أن الاتفاق المطروح في هذا المؤتمر لحل مشكلة الجنوب سيكون على حساب الهوية الإسلامية للسودان وإنقاصاً من تطبيق الشريعة الإسلامية على أراضيه. وما إن كشفت ثورة الإنقاذ عن وجهها الحقيقي وأعلنت انحيازها للمشروع الحضاري الإسلامي وشرعت في تطبيق الشريعة حتى وجدت نفسها محاطة بضغوط متنوعة من الداخل السوداني شمالا وجنوباً, ومن دول الجوار الإقليمي كإريتريا وإثيوبيا وأوغندا ومن الدول الكبرى وفي مقدمتها أمريكا. وسرعان ما اشتعلت جبهة الجنوب مكلفة الخزينة السودانية مليون دولار على الأقل يومياً, وتصاعدت ضغوط دول الجوار لتصل إلي قمتها بعد عام 1995م على خلفية اتهام النظام السوداني بدعم العملية التي استهدفت اغتيال الرئيس المصري بأديس أبابا في يونيو 1995م. وبدأت مناوشات إريترية سودانية على الحدود الشرقية تواكب معها فتح إريتريا لأراضيها لاستضافة قوات التجمع الوطني الديمقراطي السوداني المكون من ائتلاف يجمع بين بعض الأحزاب السودانية الشمالية كحزب الأمة والحزب الاتحادي, وبعض الفصائل الجنوبية بما فيها الحركة الشعبية لتحرير السودان, وسرعان ما بدأ هذا التجمع في شن هجمات متتالية على الحدود الشرقية بين السودان وإرتريا وذلك بهدف إسقاط نظام الإنقاذ بالقوة المسلحة. وتزايدت الضغوط بعدما فرض مجلس الأمن عقوبات على السودان في 1996م, ثم بعد ذلك فرضت أمريكا عقوبات اقتصادية على السودان, ومع حلول 1998م قامت الطائرات الأمريكية بضرب عدد من المواقع بالسودان منها مصنع خاص بالأدوية بالخرطوم بذريعة تبعيته لزعيم تنظيم القاعدة الذي دبر تنظيمه عمليتي تفجير سفارتي أمريكا في كينيا وتنزانيا في أغسطس1998, وبذلك وصلت الضغوط إلي ذروتها على النظام السوداني وصارت كل الأطراف الإقليمية والدولية والداخلية تسعى للإجهاز على هذا النظام على خلفية مشروعه الإسلامي الحضاري الذي يروج له. وبدأ نظام الفريق عمر البشير يفكر في إيجاد مخرج له من هذه الأزمة فأقدم على عدة خطوات لتخفيف حدة هذه الضغوط كان من بينها: وكان من ثمرة تلك الإستراتيجية أن تدخلت واشنطن للبحث عن حل للمشكلة عبر ما عرف بمنبر "شركاء الإيجاد"(2) , ثم ما لبثت أمريكا أن عينت مبعوثاً رئاسياً لمتابعة مشكلة السودان وذلك قبيل أحداث 11 سبتمبر 2001م, والتي أعقبتها فترة من التفاهم بين واشنطنوالخرطوم على خلفية التعاون الأمني بينهما فيما يتعلق بتنظيم القاعدة المسئول عن هجمات 11 سبتمبر 2001م. ولكن في أكتوبر 2002م، أصدر الكونجرس الأمريكي ما عرف بقانون "سلام السودان" لإلزام طرفي النزاع بضرورة التوصل لحل في أقرب فرصة, وكان هذا القانون في حقيقته يهدد الحكومة السودانية باتخاذ عقوبات سياسية واقتصادية ضدها إذا عرقلت الحكومة مفاوضات السلام. وبدأت الضغوط تؤتي أكلها وبدأت جولات المفاوضات المتتالية تسفر عن الاتفاقيات العديدة مثل: وبينما المفاوضات مستمرة لتحديد شكل تقاسم السلطة ومدى تطبيق الشريعة الإسلامية على العاصمة القومية الخرطوم, إذ تتفجر ثلاث قضايا خطيرة هي: القضية الأولي: تفجر التمرد المسلح في إقليم دارفور غرب السودان على خلفية قيام بعض القبائل العربية بالإغارة على القبائل الإفريقية مما أسفر عن ظهور حالات من القتل والنهب والاغتصاب والنزوح الجماعي إلي تشاد, ودعت حركات التمرد إلي التدخل الدولي لإنقاذ المدنيين بدارفور, وسرعان ما نشط المبعوثون الدوليون للتأكد من هذه المزاعم ودعت أمريكا لاستصدار قرار من مجلس الأمن لإرغام الحكومة السودانية على وضع حد لهذه الممارسات المنسوبة للقبائل العربية المعروفة باسم "الجنجويد" وأمهلتها عدة أسابيع لجمع سلاحها ومحاكمة أعضائها, ولازالت حتى كتابة هذه السطور الضغوط مستمرة(7). حتى وصلت مع مطلع عام 2007م. إلي الدعوة إلي وجود قوات دولية لضبط الأوضاع داخل دارفور. ثم في أغسطس 2007م صدر قرار من الأممالمتحدة بوجود قوات دولية تدعم قوات الاتحاد الإفريقي في دارفور. القضية الثانية: وهي "قضية المناطق الثلاث المهمشة"(8) حيث بدأ وفد الحركة الشعبية لتحرير السودان في تبني مطالب بعض سكان مناطق جبال النوبة وأبيي وجنوب النيل الأزرق للحصول على حق تقرير المصير أسوة بالجنوب, ومازال التفاوض مستمرا برعاية أمريكية لتحديد مستقبل هذه المناطق. القضية الثالثة(9): ظهور بوادر تمرد في منطقة شرق السودان: حيث أعلن فصيلان مسلحان هما "مؤتمر البجة" و"الأسود الحرة" يعملان في شرق السودان - انحيازهما للعمل العسكري ضد حكومة الخرطوم, وذلك للحصول على حقهم في اقتسام السلطة والثروة والتمتع بالحكم الذاتي وحدثت صراعات عديدة بورسودان والقاس وغيرهما. بين أتباع الفصيلين والقوات السودانية الحكومية في حصيلة المفاوضات: كان لتوقيع الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان لاتفاق السلام النهائي في 9/1/2005م. العديد من النتائج أهمها: 1. إعطاء جنوب السودان حق تقرير المصير بعد مرور فترة انتقالية مدتها 6 سنوات, يختار بعدها سكان الجنوب بين الاستمرار في الوحدة أو الانفصال والاستقلال. 2. تقسيم السلطة خلال الفترة الانتقالية - 6 سنوات - على أساس الرئيس من الشمال "وهو البشير ونائبه من الجنوب - وهو جارانج .. ويكون النائب رئيساً لحكومة الجنوب, ثم تجري خلال الفترة الانتقالية انتخابات قومية لاختيار رئيس الدولة, وانتخابات في الجنوب لاختيار نائبه من الجنوب فقط. 3. يظل الجيش السوداني الوطني والجيش التابع للحركة الشعبية لتحرير السودان منفصلين خلال الفترة الانتقالية, ويتم تكوين عدد من الوحدات المشتركة بينهما والتي تتألف بشكل متساو من الجيشين, وتنتشر هذه الوحدات بواقع 24 ألفاً في جنوب السودان, 6 ألاف بجبال النوبة, 6ألاف جنوب النيل الأزرق, 3ألاف بالخرطوم. 4. اتفق الطرفان على اقتسام الثروات السودانية(10) بالعدل والإنصاف على الجميع وبناء على ذلك يتم الأتي: - قسمة بترول الجنوب بنسبة 50% للجنوب, 50% للشمال. - الاتفاق على نظام مصرفي يحتوي على بنك مركزي بفرعين: أحدهما يتعامل وفق النظام العالمي التقليدي الربوي في الجنوب, والآخر يتعامل وفق النظام المصرفي الإسلامي في الشمال. - إصدار عملة جديدة موحدة, على أن يتم استمرار التعامل بالعملات الموجودة في الشمال والجنوب خلال الفترة الانتقالية. 5. الإقرار بأن السودان بلد متعدد الثقافة والأعراق والأديان واللغات(11), والتشريع في الولاياتالجنوبية مصدره الاجتماع الشعبي وقيم وأعراف السودانيين بما في ذلك معتقداتهم الدينية, والتشريع خارج الولاياتالجنوبية مصدره الشريعة والإجماع. 6. في حالة أي تشريع وطني قائم أو سيصدر ويكون مصدره التشريعي الدين أو العرف يحق للولاية أو الإقليم الذي تكون غالبية سكانه من غير أتباع ذلك الدين أو العرف إما إنشاء تشريع يوفر مؤسسات أو ممارسات تتوافق مع الدين أو العرف السائد لديهم, أو إحالة التشريع إلي مجلس الولايات ليجيز بأغلبية ثلثي الأعضاء تشريعاً قومياً يوفر مؤسسات مناسبة بديلة(12). ماذا تعني هذه الحصيلة: والآن لابد من تحديد ما تعنيه هذه النتائج من أمور تهمنا في القضية التي كنا بصددها, ولن نحتاج إلي جهد كبير كي نستنتج الآتي: 1. إن الشريعة الإسلامية لن يتم تطبيقها في مناطق الجنوب السوداني. 2. إن عدم تطبيق الشريعة الإسلامية قد يمتد ليشمل مناطق أخري كالمناطق الثلاث: جبال النوبة, وأبيي, وجنوب النيل الأزرق, وجزء من العاصمة القومية الخرطوم, والتي مازالت محلا للتفاوض إلي الآن. 3. إن الجنوب السوداني في طريقه للانفصال, وقد تحذو حذوه أو تنضم إليه مناطق أخري, وهو ما يعني أن هذه الاتفاقيات ستصب في اتجاه انفصال جزء من دار الإسلام وفقاً للتعبير الفقهي. 4. إن محاولات تقوية الحركات المتمردة في الجنوب أو في دارفور أو في جبال النوبة وأبيي وجنوب النيل الأزرق مستمرة بنجاح مما يضعف من النظام السوداني الحاكم, ويشجع مناطق أخري في شرق السودان على التمرد, وهو ما يعني تفتت السودان إلي دويلات ضعيفة. الدور الأمريكي في هذه الحصيلة المأساوية: لقد قامت أمريكا بدور رئيسي في الوصول لهذه النتائج, وذلك عبر السياسات التي اتبعتها إدارة بيل كلينتون خلال الفترة من 1992 إلي 2000م, ثم السياسة التي اتبعها جورج بوش الابن من سنة 2000م إلي يومنا هذا, ويمكن تلخيص ملامح هاتين السياستين(13) في الآتي: ( أ ) سياسة كلينتون تجاه السودان: اتبع بيل كلينتون سياسة مواجهة وحصار وإضعاف نظام ثورة الإنقاذ الإسلامية من خلال خلق إطار إقليمي معادٍ له, وتنويع الضغوط عليه, ووصلت هذه السياسة إلي ذروتها مع القصف الصاروخي لمصنع الأدوية بالخرطوم سنة 1998م. (ب) سياسة إدارة جورج بوش الابن تجاه السودان: مع تولي جورج بوش الابن رئاسة الولاياتالمتحدة عقب انتخابات سنة 2000م أعيد النظر في السياسة المتبعة تجاه السودان في عهد كلينتون وذلك كنتيجة للضعف الواضح للقوي السياسية المعارضة لنظام الإنقاذ واتضاح عدم قدرتها على تقديم البديل المناسب للنظام القائم, وترافق مع هذا حدوث تغييرات إقليمية في علاقات الدول المحيطة بالسودان يبعضها البعض وذلك بانفجار الحرب الأثيوبية الإرترية, والحرب الأوغندية الكونغولية, مما أثر على قدرة هذه الدول على تقديم الدعم المناسب للقوي المعارضة لنظام الخرطوم, ذلك بالإضافة إلي انفجار الخلافات بين البشير والترابي وخروج الأخير وجناحه من الحكم, وتبني النظام السوداني جملة سياسات للتقارب مع أمريكا تمثلت في: ومن هنا طرح مركز الدراسات الدولية الإستراتيجية بواشنطن رؤيته للحرب الأهلية بالسودان, وأوصي فيها بضرورة إتباع سياسة أمريكية جديدة تجاهها تقوم على التواصل الإيجابي وتهدف إلي تحقيق السلام ضمن معادلة جديدة تقوم على الحفاظ على وحدة الدولة السودانية في ظل وجود نظامين قانونيين مختلفين في الشمال والجنوب, ولكن مع تنامي قوة الجناح اليميني المحافظ في إدارة بوش الابن والمتحالف مع المسيحية الأصولية بأمريكا أصبحت الإدارة الأمريكية تتجه إلي تحقيق مطالب هذا الاتجاه الداعي لإسقاط نظام الإنقاذ وإحلال دولة علمانية محله, ولا يخفف من حدة ذلك سوي ضغوط شركات البترول الأمريكية الطامعة في حصة من الاكتشافات البترولية الجديدة بالسودان. ومن هنا استمرت الضغوط في التصاعد عبر المشاركة الأمريكية الفعالة في المفاوضات من خلال "منبر أصدقاء منظمة إيجاد". الضغوط الأمريكية على السودان من 1990 إلى يومنا هذا : رحبت أمريكا في بادئ الأمر بالانقلاب الذي قام به الفريق عمر البشير جهلا منها بهويته الأيدلوجية وظناً منها أنه على غرار انقلاب جعفر النميري العسكري في 1969م لكن بعد فترة قصيرة اكتشفت أمريكا الوجه الإسلامي للنظام الجديد, ومن ثم بدأت في ممارسة الضغوط المختلفة عليه من أجل إجباره على التخلي عن هويته الإسلامية, وتعددت وتنوعت هذه الضغوط وتمثلت في الأتي: 1) إدراج السودان ضمن الدول الراعية للإرهاب في عام 1993م. 2) استصدار قرار من مجلس الأمن بإدانة النظام السوداني وفرض عقوبات عليه في 1996م. 3) قصف مصنع الأدوية بالخرطوم في 1998م. 4) تعيين السيناتور السابق القس جون دانفورث مبعوثاً رئاسياً لجورج بوش الابن للعمل على إنهاء الحرب الأهلية بالسودان في 6/1/2001م. 5) توقيع بوش في 21 أكتوبر 2002م على قانون "سلام السودان" الذي تقدم به الكونجرس إليه, والذي بمقتضاه يمكن توقيع عقوبات اقتصادية وسياسية على حكومة الإنقاذ إذا لم تشارك بحسن نية في المفاوضات كما تراها أمريكا بالطبع. 6) تبني التمرد في دارفور من خلال تحميل الحكومة السودانية مسئولية تردي الأوضاع الأمنية به, واستصدار قرار من مجلس الأمن يلزمها بوضع حد لهذه الانتهاكات وإلا تعرضت للعقوبات, وإجبار حكومة الإنقاذ على الدخول في مفاوضات مع متمردي دارفور. 7) دعم مطالب المناطق الثلاث: جبال النوبة, وأبيي, وجنوب النيل الأزرق في مواجهة حكومة الإنقاذ. 8) تقديم مشروعات قرارات لمجلس الأمن تقضي بتوقيع عقوبات على السودان, وإرسال قوات أمنية لإقليم دارفور, وهو ما نجحت فيه أخيراً. ولكن قد يقول قائل: ولماذا تمارس أمريكا كل هذه الضغوط على بلد فقير كالسودان مشاكله أكثر من فوائده؟ ...وهذا يجرنا إلي البحث عن الأهداف التي تسعي الإدارة الأمريكية إلي تحقيقها عبر هذه الضغوط. الأهداف الأمريكية في السودان: يمكن تلخيص تلك الأهداف في الأتي: 1. أهداف دينية(14): تتمثل في دعم رؤية الاتجاهات اليمينية والأصولية المسيحية المتنفذة في إدارة جورج بوش وكذلك الاستجابة إلي دعوات الكنائس للتدخل بالسودان لوضع حد للاضطهاد الديني الذي يعانيه سكان الجنوب وبما يفتح الباب أمام الحملات التبشيرية وإسقاط النظام الإسلامي به. 2. أهداف اقتصادية: تتمثل في السيطرة على الاكتشافات البترولية الجديدةبالجنوب السوداني(15) ومحاولة إبعاد الشركات الصينية والهندية والماليزية عن منافستها, فقد أثبتت البحوث الجيولوجية في جامعة برلين وجود ثروة نفطية كبيرة في شمال السودان بالإضافة إلي ما تم اكتشافه في الجنوب السوداني وغرب السودان بولاية كردفان والتي بلغت طاقتها الإنتاجية الآن حوالي 300 ألف برميل يومياً. 3. أهداف انتخابية: تظهر في استجابة إدارة بوش لضغوط اليمين الأصولي المسيحي والملونين (الأمريكان من أصول سوداء) لإسقاط نظام الإنقاذ بالسودان, ومن المعروف أن هاتين الفئتين تمثلان جزءا هاماً من القاعدة الانتخابية بأمريكا. 4. العمل على تفتيت السودان والإطاحة بنظام الإنقاذ الإسلامي يحقق مصالح إسرائيل الحليف الإستراتيجي لها بالمنطقة. 5. الإطاحة بنظام إسلامي على خلفية تطبيقه للشريعة الإسلامية وعدم استجابته للمصالح الأمريكية بشكل كامل, فضلا عن أنه ظل يمثل هاجساً أمنياً مقلقاً على خلفية العلاقات التي كانت قائمة بين نظام الإنقاذ وبعض الجماعات الجهادية خاصة. النظام السوداني وحكم جهاد الطائفة الممتنعة: وهكذا بعد هذه الرحلة الطويلة في تطورات الشأن السوداني نجد أنفسنا أمام نظام كان يطبق الشريعة الإسلامية ويرغب في تعميمها على السودان كله, إلا أنه عبر الضغوط التي تعرض لها - وأشرنا إليها آنفا - اضطر إلي قبول عدم تطبيق الشريعة الإسلامية بالجنوب, وقد يضطر إلي قبول عدم تطبيقها في أماكن أخري, وأيضاً اضطر إلي التوقيع على اتفاقية قد تؤدي إلي انفصال جزء من دار الإسلام واستقلاله بعيدا عنها. والسؤال الذي سيطرح نفسه: إذا كان النظام السوداني لن يطبق الشريعة في الجنوب فهل يعد طائفة ممتنعة عن الالتزام بشريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة مما يتوجب جهاده؟ لا شك في أن سبب وجوب الجهاد قائم حيث هناك امتناع بالفعل عن تطبيق الشريعة بالجنوب, لكن المستجدات التي حدثت وحملت هذه الضغوط التي أشرنا إليها تلغي أثر هذا السبب مما يستوجب عدم إنفاذ حكم جهاد الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام ضد نظام الإنقاذ بالسودان, لأن هذه الضغوط تعد مانعاً يمنع من إنفاذ هذا الجهاد, فهذه الضغوط توضح أن حكومة الإنقاذ ممنوعة من تدعيم تطبيق الشريعة على كل الأراضي السودانية وليست - في الحقيقية - ممتنعة عن ذلك. وهذا الوضع في السودان قد نجد مثله اليوم في أماكن عدة بعالمنا الإسلامي, وهذه الحالة تذكرنا بحالة النجاشي ملك الحبشة في العهد النبوي والتي استنبط منها العلماء حكماً يماثل الذي ذكرناه في حق نظام الإنقاذ. فقد كان النجاشي ملكاً على الحبشة عندما هاجر إليها بعض أصحاب النبي (صلي الله عليه وسلم) بناءً على نصيحته لهم وهرباً من الاضطهاد القريشي الواقع عليهم, فأحسن النجاشي وفادتهم وأمنهم على أنفسهم ودينهم, وسرعان ما أسلم سرا وظل مع إسلامه لا يحكم بشريعة الإسلام لأن شعبه يدين بالنصرانية والبطاركة لن يدعوه يفعل ذلك وهو يخشي - لو فعل ذلك - أن يقتلوه ويقتلوا المهاجرين إليه من الصحابة. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(16): "وكذلك النجاشي, هو وإن كان ملك النصارى, فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام, بل إنما دخل معه نفر منهم؛ ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عليه, فصلي عليه النبي - صلي الله عليه وسلم - بالمدينة, خرج بالمسلمين إلي المصلي فصفهم صفوفاً, وصلي عليه, وأخبرهم بموته يوم مات وقال (صلي الله عليه وسلم): "إن أخاً لكم صالحاً من أهل الحبشة مات" وكثير من شرائع الإسلام - أو أكثرها - لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك, فلم يهاجر, ولم يجاهد, ولا حج البيت, بل قد روى أنه لم يصل الصلوات الخمس, ولا يصوم شهر رمضان, ولا يؤدي الزكاة الشرعية, لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه, وهو لا يمكنه مخالفتهم. ونحن نعلم قطعاً أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن, والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه, وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه.. وهذا مثل الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم, وفي الديات بالعدل, والتسوية في الديات بين الشريف والوضيع, النفس بالنفس والعين بالعين, وغير ذلك... والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه لا يقرونه على ذلك, وكثيرا ما يتولي الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً - بل وإماماً - وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك, بل هناك من يمنعه ذلك, ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها .. وعمر بن العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل, وقيل: إنه سُمً على ذلك .. فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة, وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه, بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها". أ.ﻫ ويستشهد الإمام ابن تيمية أيضاً على صحة هذا الحكم بذكر تولي يوسف (عليه السلام) لخزائن مصر, ويقول في هذا الصدد(17): "وكما كان يوسف الصديق (عليه السلام) مع أهل مصر؛ فإنهم كانوا كفارا, ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام؛ فإنه دعاهم إلي التوحيد والإيمان فلم يجيبوه, قال تعالي عن آل فرعون { وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً }. أ. ﻫ ويقول في موضع آخر(18) "ومن هذا الباب تولى يوسف الصديق خزائن الأرض لملك مصر, بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض, وكان هو وقومه كفارا, كما قال تعالي: { وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ } (سورة غافر: الآية 34). وقال تعالى عنه:" يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم " (سورة يوسف: 39, 40) ومعلوم أنه مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته, ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم, ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله, فإن القوم لم يستجيبوا له, لكن فعل الممكن من العدل والإحسان, ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن أن يناله بدون ذلك, وهذا كله داخل في قوله تعالي:"فاتقوا الله ما استطعتم" (سورة التغابن: من الآية 16). أ. ﻫ وكل ما سبق يدل على أن هناك أعذارا" معتبرة شرعاً في عدم تطبيق بعض أحكام الشريعة, وإذا ما طبقنا ذلك على ما يحدث في السودان اليوم وما يمارس على حكومة الإنقاذ من ضغوط لإلغاء الشريعة والتي وصلت حدا كبيرا كما رأينا, مما دفع الرئيس السوداني عمر البشير إلي أن يقول في اجتماع الهيئة الشعبية للدفاع عن العقيدة والوطن(19) : "لن تعود الخرطوم عاصمة علمانية, وما دفعنا إلي قيادة التغيير في 30 يونيو سنة 1989 هو التآمر على الشريعة وإلغائها". أ. ﻫ .. ودعا أنصاره إلي الاستشهاد من أجل استمرار الشريعة. ولا شك في أن مثل هذه الضغوط تجعل حكومة الإنقاذ بين خيارات أحلاها مر, فإن استجابت لها وألغت الشريعة الإسلامية فقدت مصداقيتها أمام أنصارها وصدقها مع ربها, وإن أصرت على تعميم تطبيق الشريعة الإسلامية على كل السودان تزايدت هذه الضغوط بصورة تهدد بقاء النظام نفسه, وقد تطيح بتطبيق الشريعة في الجنوب والشمال معاً. ولم يبق أمام النظام السوداني سوي أن يسير في هذا المسار بالفصل بين تطبيق الشريعة في جنوب السودان وشماله. وإذا انتهينا إلي هذه الضغوط تضطر النظام السوداني إلي عدم تطبيق الشريعة, فهذا يعني أن لديه عذرا شرعياً معتبرا يمنع القول بوجوب جهاده انطلاقاً من امتناعه عن تطبيق الشريعة في بعض أراضي السودان, ويجب أن نؤكد على أن هذه الضغوط تمثل عذرا معتبرا عندما تكون ضغوطاً حقيقية لا وهمية, وعندما لا تكون هناك قدرة على دفعها كما هو الحال في النموذج السوداني. وهكذا يتضح لنا عبر هذا النموذج الأثر الكبير الذي تحدثه المستجدات والمتغيرات الواقعية على القول بحتمية الجهاد في واقع معين والتي قد تجعل القول الأليق هو حتمية عدم الجهاد في ظل استمرار هذه الأوضاع الجديدة. الهوامش:- 1) مبادرة منظمة "الإيجاد" لحل مشكلة الحرب في الجنوب السوداني هي مبادرة صدرت عن هيئة الحكومة للتنمية في شرق أفريقيا في عام 1994 وتعرف هذه المنظمة اختصاراً "بالإيجاد" وتتكون تلك المنظمة من دول القرن الأفريقي. 2) "منبر شركاء أو أصدقاء الإيجاد" يعبر عن تجمع يشمل عدداً من الدول المتهمة بالشأن السوداني والداعمة لجهود منظمة الإيجاد في الوصول لحل لمشكلة الجنوب السوداني, والدول المشاركة فيه: أمريكا والاتحاد الأوربي وكندا واليابان. 3) راجع ذلك في: التقرير الاستراتيجي العربي, 2002 - 2003 - ص347 . 4) راجع مقال غازي صلاح الدين عبقرية الإخفاق في قضية الشريعة الإسلامية, جريدة الحياة العدد 14711, ص9. 5) راجع السياسية الدولية - عدد 154 - ص288. 6) راجع الشرق الأوسط - عدد 9172 - ص5. 7) راجع المراجع الآتية للوقوف على أبعاد التمرد في دارفور: التقرير الإستراتيجي العربي 2002 - 2003م - ص350 .. السياسة الدولية - عدد 153 - ص266 .. الحوار مع قادة التمرد في دارفور المنشور في مجلة المصور - عدد 4163 - ص22. 8) راجع: التقرير الإستراتيجي 2002- 2003 ص358. ومجلة السياسة الدولية - عدد 154 - ص268, وعدد 152 - ص14. 9) راجع جريدة الشرق الأوسط الصادرة في 3/2/2005 - ص9. 10) راجع نصوص اتفاقية تقاسم الثروات في جريدة الشرق الأوسط السعودية الصادرة في 8/1/ 2004- عدد رقم 9172- ص5 11) راجع نصوص اتفاق ماشاكوس, مقال عبقرية الإخفاق في معالجة قضية التشريع الإسلامية رقم (2) لغازي صلاح الدين العتيبي مستشار الرئيس السوداني لشئون السلام والمنشور في جريدة الحياة اللندنية, عدد 14711,ص9. 12) راجع مقال: عبقرية الإخفاق في معالجة قضية الشريعة الإسلامية رقم (2) السابق ذكره. 13) راجع السياسات الأمريكية تجاه نظام ثورة الإنقاذ الإسلامية بالسودان في الآتي: التقرير الإستراتيجي العربي (2002 - 2003) إصدار مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام, 346 .. مقال الدور الأمريكي في الشأن السوداني للصادق المهدي والمنشور بجريدة الحياة اللندنية, عدد 14821 ص10 .. دراسة الرؤية الأمريكية لأزمة السودان, بدر حسن شافعي والمنشور بمجلة السياسة الدولية, عدد 153, ص276. 14) راجع التقرير الإستراتيجي العربي (2002 - 2003), ص347, مقال:" أين المخرج في السودان" للصادق المهدي, المنشور بالحياة اللندنية, عدد 14730, ص13. 15) راجع: مقال" بترول السودان وأمن البحر الأحمر", لعمرو كمال حمودة, والمنشور في الأهرام 4/10/2002, ص38 .. والشرق الأوسط, عدد 9172,ص5 .. اكتشف البترول السوداني سنة 1928 في ولاية كردفان بواسطة شركة شيفرن الأمريكية, ثم انسحبت مع صعود نظام الإنقاذ, ويقوم برعاية مشروع البترول السوداني كونسوريتوم يتكون من عدد من الشركات الصينية والماليزية والهندية بجوار الشركة الوطنية السودانية. 16) مجموعة الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية - 19/117 - ونحوه في منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية, دار الكتب العلمية - بيروت - 3/27. 17) مجموعة الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- 19/ 116,117 18)المرجع السابق لابن تيمية - 20/ 34 19) راجع تصريح الرئيس عمر البشير فى جريدة الحياة اللندنية - عدد 14696- ص 1س.