من الركائز التي يقوم عليها وجود هذا الدين الفعلي، ووجود أمته.. التضحية. فبها أي بالتضحية قام وجود الأمة أول مرة، وعليها وبها قام الدين في الأرض. وكل دعوة نبي كانت تقوم بشكل أساسي على التضحية. وأول تضحيته.. تضحية بالراحة وطيب العيش، ليستبدل بكل ذلك الشدائد والأهوال. لأن الله الذي وضع نواميس الكون وسن سنن الوجود، جعل هذا الأمر في صميم البنية وصميم التكوين، إنْ في النفس الانسانية؛ فلا يقوم بنيان الدين فيها إلا بالتضحية، وإنْ في الواقع والوجود العملي؛ فلا تنهض أركان الدين إلا بالتضحية. والنماذج القرآنية التي عرضها علينا لمن بذلوا وضحوا غنية جداً، ومتنوعة جداً، وممتدة عبر التاريخ. فهذا نوح عليه السلام يدعو الى الله مدة يذهل العقل من مجرد تمليها وتخيلها لا من مجاراتها ومضاهاتها في الميدان. فمن يتصور نفسه في خندق الدعوة، وميدان جهاد الكلمة «ألف سنة إلا خمسين عاماً..»؟ من يتحمل اللأواء والبلاء والاستهزاء.. كل هذه الآماد المتطاولة والأحقاب الممتدة انها العزمات الماضية، والارادات الكاملة، والنفوس الكبيرة. من هنا كان نوح أول أولي العزم من حيث الأقدمية. فإذا سرنا مع نهر الزمان وتيار السنين والقرون، لنصل الى أبي الأنبياء، ابراهيم عليه السلام، خليل الله، هذا الذي يعتبر في ديننا المثال الكامل للتضحية. ومن هنا شرع الله عيد الأضحى للاقتداء بأبي الأنبياء أقول: اذا وصلنا هذه المحطة العظيمة في تاريخ النبوات، وجدنا التضحية في أجلى صورها، وأعظم حالاتها، فأنْ يقدم نفسه ليقذف به في النار، في سبيل الله، ولا يحجم، ولا يتردد، ثم كان الامتحان الثاني بالهجرة من الوطن في سبيل الله، هذا المعنى العظيم من التضحية الذي جعل المهاجرين في ديننا يحتلون أعلى المنازل والرتب بين المؤمنين والمسلمين. ثم كان الامتحان الثالث ان يقضى عمره، كله أو جله بلا ولد، حتى اذا وصل الشيخوخة راضياً مطمئنا جاءته البشارات. فلما جاء الوليد على شوق واحتياج مضاعف امر باسكانه مع أمه في ارض جرداء بواد غير ذي زرع، وان يتركهم ثَمّ. فلا يتردد. لقد كان هذا اختباراً لابراهيم، ولم يكن اختياراً من ابراهيم، ولا غيرة من زوجه كما تزعم الاسرائيليات وهواتها وحواتها ورواتها. حتى اذا بلغ الوليد مرحلة المعونة واشتداد الساعد، فتعلقت به الامال، اذ به يؤمر من ربه تعالى بأن يذبحه، فيسارع ولا يتردد، مع ان الوحي اليه كان بأول درجات الايحاء واقلها تصريحاً: الرؤيا، فيلبي ولا يتلجلج. ولكن الله الذي يمتحنه -سبحانه- وهو اللطيف بعباده، يفتدي الذبيح بكبش، او بذبح عظيم، فتصبح التضحية سنة في دين الله ماضية الى يوم القيامة. ولكن الناس تراها في معناها القريب، ولا تراها في رمزها البعيد، وهو التضحية بالغالي والنفيس، والمال والنفس في سبيل الله ونصرة دين الله. ثم يؤمر ابراهيم في شخوخته المتأخرة ان يبني البيت، ولك ان تتصور هذا الشيخ الطاعن عليه السلام كيف يرفع الحجارة ويعلي البنيان حتى يرتفع البيت رمزاً لعبادة الله وتوحيد الله. بهذه التضحيات المتوالية، والجسيمة، صار ابراهيم إمام الناس وسار أمام الناس، يعلمهم هذا المعنى العظيم.. التضحية ومن هنا سجل القرآن الكريم هذا السجل الحافل من التضحيات في كلمات اذ قال في آية من الآيات في سورة البقرة: «واذا ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً..». فماذا عبرنا القرون الى محطة من محطات النبوة توقفنا عند موسى عليه السلام هذا الذي واجه الطغيان السياسي في أعتى صوره متمثلاً في فرعون الذي جعله القرآن رمز الطغيان، وواجه الطغيان الاقتصادي متمثلاً في قارون الذي صار ايضاً رمز الرأسمالية المتوحشة التي لا تعرف الانسانية. ثم واجه شعبه.. هذا الغليظ الرقبة، العصي على الانقياد، الصعب المراس، المتقلب المزاج، الذي تتلاعب به الاهواء، ثم بعد جهاد عشرات السنين في دعوتهم تكون النتيجة.. لا شيء: «قال رب اني لا أملك إلا نفسي وأخي..». فإذا جئنا الى خاتم الأنبياء مروراً بأخيه عيسى عليهم الصلوات، وجدنا هذا المعنى مضطرداً، ووجدنا السنة ماضية، والناموس واحداً، فمن اجتهاد في العبادة، الى حد تفطر الاقدام، الى تضحية بالراحة شفقة على الناس جعلته لا ينام، الى جهاد يبذل فيه أغلى الأقارب والأرحام.. نخلص الى واقعنا، دين مقصي من الوجود والشهود، واوطان محتلة من الأمريكان واليهود، وأمة مغيبة مهمشة ووزن مفقود. فما الذي يبدل الأوضاع ويتيح لنا مكاناً تحت الشمس، وعزة وكرامة؟ إنها التضحية، هذا هو السبيل، لمن كان يبحث عن السبيل.