يحاول مؤلف هذا الكتاب إلقاء الضوء على الدولة الأميركية.. السلطة والمجتمع.. من منطلق أن الفهم الجيد لما يدور على الساحة في تلك الدولة العظمى, يحمل في مضمونه استشرافاً أو فهما أفضل لعالم الغد, لا بسبب المكانة التي تحتلها الولاياتالمتحدة اليوم فحسب, بل أيضاً لأنه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى 1918, فإن الأفكار والتغييرات الكبرى التي أعادت صياغة معظم المجتمعات البشرية غالبا ما تأتي من وراء الأطلسي. في مقدمة الكتاب يقرر المؤلف, وهو رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة قناة السويس, أن أميركا تعاني من أزمة فقدان الثقة بالذات, وهذا يقودها إلى الخلط بين قوتها وفضائلها, حيث تحاول إثبات أنها أفضل وأقوى من باقي الدول. وهذه الحالة يمكن وصفها بأنها "غطرسة القوة", وهي تدفعها إلى التوقف عن الاعتراف بارتكاب أخطاء, وإلى السعي لكسب كل الجولات في كل الاتجاهات مهما كانت تافهة. وهذا يؤدي بالتالي إلى فقدان الحكمة والرؤية والقدرة على فهم الآخرين, ومن هنا فلا يمكن للولايات المتحدة أن تتفهم أبعاد تنامي حالة العداء الخارجي تجاهها, إلا إذا اعترفت بسلوكها العدواني تجاه الآخرين. السلطات الثلاث وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب, الأول يستعرض فيه المؤلف طبيعة النظام السياسي في الولاياتالمتحدة من خلال الاستطراد في الحديث عن السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. فالكونغرس الأميركي بمجلسيه النواب (435 عضوا) والشيوخ (100 عضو) هو السلطة التشريعية الأعلى في البلاد, وله أهمية كبرى على صعيد السياسة الخارجية, باعتباره شريكا أساسيا في صنعها بما له من سلطات إقرارية أو تقييدية. ولعلنا تابعنا الجدل في الكونغرس حول عملية تمويل الحرب في العراق والضغط من أجل سحب القوات الأميركية هناك. ورئيس مجلس النواب هو الشخصية الثالثة في سلم السلطة, بعد الرئيس ونائبه, ويشارك الكونغرس في كل مظاهر الحكم, وتخضع أعمال السلطة التنفيذية لمراقبته, من خلال لجان الاستماع واعتماد الميزانيات وغيرها. والسلطة التنفيذية هي أوسع فروع الحكومة الفدرالية من حيث العدد, وتتكون من الرئيس ونائبه والوزراء والمستشارين والوكالات التي تتوزع عليها المهام التنفيذية, مثل وكالة الاستخبارات ووكالة التحقيقات الفدرالية, ووكالة الأمن القومي وغيرها. ويعد البيت الأبيض في العاصمة واشنطن هو مركز الإدارة الأميركية, ومنصب الرئيس الأميركي هو أقوى منصب تنفيذي في العالم, وفي نفس الوقت أكثرها تقييدا, فالرئيس يعمل في منظومة تقتضي تعاون الكونغرس معه, وبالتالي رضا الشعب عن سياساته. ويقوم النظام القضائي على أساس فدرالي, بالإضافة إلى أن لكل ولاية نظامها القضائي الخاص بها, ومحاكمها المحلية التي تعمل داخلها. وفي ظل النظام المزدوج تعتبر المحكمة العليا للولايات المتحدة هي الحكم النهائي في كل ما يختص بالقانون الفدرالي والتنازع بين الاختصاصات القضائية. وأهم مميزات النظام القضائي الأميركي تكمن في كونه مستقلاً عن الحكومة, فالمواطن الأميركي لا يذهب إلى السجن بأي حال لأن حكومته تريده هناك, فهذا قرار المحلفين وحدهم يتخذونه على أساس أدلة واضحة. ويتميز النظام الرئاسي الأميركي بالفصل الواضح بين السلطات, حيث لا تستطيع السلطة التنفيذية حل أي من مجلسي الكونغرس ولا تعطيل أو فض دورة انعقاده، عكس النظم البرلمانية الأخرى. كما أنه ليس للكونغرس حق توجيه أسئلة للوزراء ولا استجوابهم سياسيا, كما لا يجوز لأعضاء السلطة التنفيذية أو الحكومة أن يكونوا أعضاء في الكونغرس. وكل القرارات التشريعية الصادرة عن الكونغرس صاحب سلطة التشريع, تخضع للرقابة الدستورية من قبل المحكمة العليا, ولا يقتصر هذا التقييد على أعمال الكونغرس من قوانين وقرارات, بل يمتد ليشمل أعمال الرئيس, أي أن السلطتين التشريعية والتنفيذية, خاضعتان في نهاية الأمر لرقابة السلطة القضائية. الانتخابات الأميركية ويستعرض المؤلف في الباب الثاني الانتخابات الأميركية, ويشير إلى أن مشكلة المساواة العرقية بين البيض والملونين مازالت من القضايا البارزة التي تلقي بظلالها على الحياة السياسية هناك. ورغم الارتفاع النسبي لعدد الأشخاص المدرجين على جداول الانتخابات, والبالغ عددهم 175 مليون نسمة, مقارنة بعدد الأفراد الذين بلغوا سن التصويت وهم 220 مليون نسمة من مجموع سكان الولاياتالمتحدة (287 مليون نسمة وفق إحصائية 2004), فإن ظاهرة ضعف الإقبال على التصويت هي إحدى السمات البارزة. ففي عام 2004 لم يصوت في انتخابات الرئاسة سوى 122 مليونا فقط بنسبة 55% ممن لهم حق التصويت. وتتنوع وسائل الإدلاء بالصوت في الانتخابات من التصويت الإلكتروني, إلى اللمس عبر شاشات, إلى المسح الضوئي, إلى البطاقات المثقوبة, ثم الاقتراع عبر الأوراق التي تفرز يدويا، وقد ارتفع عدد المصوتين إلكترونيا في عام 2004 إلى 80% من إجمالي الناخبين. وتجري الأحزاب السياسية انتخابات داخلية تمهيدية لاختيار مرشح الحزب, عبر اختيار مندوبين يؤيدون هذا المرشح أو ذاك في المؤتمر القومي للحزب, ويتفاوت عدد مندوبي كل ولاية طبقا لتعدادها, وطبقا للحزب أيضا، ويجب أن يحصل المرشح الذي يدعمه الحزب على أكثر من نصف عدد الأصوات الخاصة بالمندوبين. وبلغ عدد مندوبي الولايات للمؤتمر القومي للحزب الديمقراطي 4353 مندوبا في 2004, كما بلغ عدد مندوبي الولايات للمؤتمر القومي للحزب الجمهوري في نفس السنة 2509, والفائز بالأغلبية البسيطة في الحزب الجمهوري, يحصل على كل أصوات المندوبين في الولاية. ويقول المؤلف إنه بالرغم من أن الدستور لم يحدد عدد الفترات التي يجب شغلها, فإن التقاليد السياسية استقرت على الاكتفاء بفترتين رئاسيتين كل منهما أربع سنوات للرئيس, ويجري التصويت العام لاختيار مندوبي الولاية بالمجمع الانتخابي الذي بدوره يختار مرشح الرئاسة وذلك في أول يوم ثلاثاء من شهر نوفمبر/تشرين الثاني قبل انتهاء مدة الرئيس مباشرة. ولعل أبرز عيوب هذه الطريقة (المجمع الانتخابي) أنها تميز بين الولايات بتفاوت شديد دون سبب منطقي, فهناك ولايات ممثلة بثلاثة أعضاء فقط مثل ميسوري, في حين أن هناك ولايات ممثلة ب55 عضوا مثل كاليفورنيا. عيوب النظام الانتخابي وتتمثل أهم عيوب النظام الانتخابي الأميركي كما يقول المؤلف في أنه يعطي المجمع الانتخابي كلمة الفصل في اختيار الرئيس, مما يعني تجاهل رأي الشعب في النهاية. والدليل أن آل غور حصل على نصف مليون صوت زيادة عن جورج بوش (الصغير) في انتخابات الرئاسة عام 2000, ومع ذلك تولى الأخير السلطة بسبب المجمع الانتخابي. كما أن الفائز بالأغلبية ولو بصوت واحد في الولاية يحصل على أصوات الولاية كلها, ويضاف إلى ذلك تعدد طرق الاقتراع وفرز الأصوات وتباينها من ولاية لأخرى, وهو ما يؤدي إلى وجود أخطاء في عمليات تسجيل الناخبين وفرز الأصوات. وتمتد هذه العيوب أيضاً إلى المراحل التمهيدية للعملية الانتخابية وجمع تبرعات هائلة (بلغت في عام 2004 أربعة مليارات دولار) لتمويل الحملات الانتخابية للمرشحين للرئاسة. ويستعرض المؤلف خريطة القوى الحزبية في الولاياتالمتحدة, حيث تأسس الحزب الديمقراطي عام 1792, بينما انشقت عنه مجموعة أخرى أسست في عام 1850 الحزب الجمهوري, على أن الخريطة الحزبية في الولاياتالمتحدة لا تقتصر على هذين الحزبين الكبيرين, بل هناك أحزاب سياسية أخرى تقدر بنحو 218 حزبا. ولا تضع القوانين الفدرالية الأميركية أي شروط أو قيود على إنشاء الحزب السياسي, ومن أسماء الأحزاب التي يستعرضها الكتاب: الحزب الفاشي والحزب النازي وحزب الكتائب وحزب الدستور وحزب التحريم وحزب القيم العائلية والحزب الشيوعي والحزب الخفيف وحزب القاعدة وحزب الماريغوانا وحزب الإبريق وحتى حزب السلام عن طريق الجنس!. المحافظون الجدد في الباب الثالث -وهو أهم أبواب الكتاب- يتحدث المؤلف عن أجنحة اليمين المحافظ أو "المحافظون الجدد", فيشير في البداية إلى أن سكان الولاياتالمتحدة نحو 300 مليون نسمة يمكن تصنيفهم كالتالي: 45% من البروتستانت و25% من الكاثوليك و3% من الأرثوذكس و2% مسلمون و2% يهود و1% بوذيون وهندوس, أما باقي السكان 22% فيصنفون على أنهم لا دينيون أو ملحدون أو علمانيون. ويقول المؤلف إنه بخلاف ما هو شائع لدى البعض, فإن اليهود ليسوا هم من أسهموا في إيجاد فكرة الصهيونية المسيحية. ولعل ما يثير الدهشة والتعجب في تلك العلاقة بين الصهيونية المسيحية واليهود أن الصهيونية المسيحية هي التي أوجدت الصهيونية اليهودية وليس العكس, بل إن أعجب ما في الأمر أن البروتستانت والإنجيليين هم من أسهموا بشكل مباشر في وجود الصهيونية اليهودية, ثم ظهور المشروع الصهيوني بعد ذلك في القرن التاسع عشر!. وتبدو الصهيونية المسيحية في مناصرتها للكيان الصهيوني وفي صهيونيتها أشد تطرفا وغلواً من صهيونية كثير من يهود أوروبا والولاياتالمتحدة, بل قد تبدو أحيانا أشد تطرفا وغلواً من بعض يهود إسرائيل أنفسهم. وتبدو إسرائيل في الخطاب المسيحي المتصهين على أنها قضاء إلهي, ومن ثم يصبح دعم وتأييد إسرائيل التزاما دينيا في سبيل مرضاة الرب, وتصبح معارضة سياساتها بمثابة خطيئة دينية!. ويقول المؤلف إنه بالرغم من أن المنتمين للكنائس الصهيونية المسيحية في الولاياتالمتحدة يمثلون نسبة ضعيفة عدديا, مقارنة بباقي الكنائس, فإنها نسبة فاعلة جدا ولا سيما على مستوى التأثيرات السياسية. وأوضح أن جماعات اليمين المسيحي المتصهين تتمتع بقدرة تنظيمية وتأثير فعال في مجال العمل السياسي, وتدعم هذا التيار كنائس عديدة, وجامعات ومدارس ومنظمات وجمعيات. ومصدر الخطورة هنا أن تنامي الإنجيلية السياسية وما تطرحه من أفكار توراتية يوشك أن يلقي بظلاله على منظومة المجتمع الأميركي, خاصة أن الانسياق خلف تلك الروئ والتصورات يمثل عمليا نقضا للأساس الفلسفي الذي قامت عليه الولاياتالمتحدة, وهذا في حد ذاته يمثل أكبر تهديد قد تواجهه أميركا في المستقبل. ليس لها قاعدة ويرى المؤلف أنه بالرغم من أن حركة المحافظين الجدد لا تستند إلى قاعدة جماهيرية فإنها استطاعت أن تحتل مكاناً بارزاً على الساحة الأميركية بفضل الشهرة والنفوذ الذي يحظى به أتباعها. وتتمحور أفكار المحافظين الجدد حول منطقة الشرق الأوسط وإعادة صياغتها, ليس فقط كساحة للمصالح بل للصراعات بشكل يتفق مع آراء وأفكار التيارات المسيحية الصهيونية. وقد ساهمت عوامل كثيرة في الدور البارز الذي يلعبه المحافظون الجدد في السياسة الأميركية، منها نشاطهم الفكري والحركي الواضح من خلال إغراق مكاتب أعضاء الكونغرس برسائل الفاكس والبريد الإلكتروني, لفرض أفكار وتصورات معينة, ومنها ميل المواطنين الأميركيين إلى العزلة, وتراجع اهتمام الشعب الأميركي بمسائل السياسة الخارجية. وقد استفاد المحافظون الجدد من تسخير الآلة الإعلامية لصالحهم, وكذلك مراكز الأبحاث والدراسات, كما أفادهم كثيراً سقوط برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر/أيلول 2001. إن المحافظين الجدد ليسوا قوة سياسية بذاتهم, إلا بقدر استقوائهم بالظروف التي هيأت ذلك, وتأثيرهم يقوى ويضعف وفقاً للظروف الداخلية وطبيعة التحديات الدولية التي تواجهها أميركا. ومن الصعب تصور رفعهم راية الاستسلام بسهولة, فمن المتوقع أن تظل مراكزهم الإعلامية والبحثية في حالة استنفار, وبالتالي استمرار تأثيرهم في السياسة الأميركية, وربما تقل هذه التأثيرات في السنوات القادمة, خصوصاً بعد إخفاق المشروع الأميركي في العراق. المصدر: الجزيرة