من أهم القضايا التي تشغل بال كل مسلم مثقف واع بطبيعة هذا العصر وبما تعانيه أمتنا من أزمات وما يتربص بها من تحديات فكرية ومادية قضية الخطاب، ذلك أن الخطاب هو أداة التبليغ والتواصل والحوار ما بين أبناء الأمة نفسها. وبينها وبين الأمم الأخرى. هذه الأداة هي مقياس نضج الأمة ومعيار مقدرتها على ممارسة ذلك التبليغ والحوار والتواصل وعلى إحلال نفسها في المكانة اللائقة بها بين الأمم ومن ثم نجاحها أو فشلها في اقناع الآخرين بمواقفها ووجهات نظرها في مختلف المسائل والشؤون. ويتجسد الخطاب في مستويات مختلفة كما يتجلى في صور متعددة. أما مستوياته التي يوجه إليها فيمكن تصنيفها إلى صنفين داخلي أو محلي خاجي أو عالمي، وينقسم كل من هذين الصنفين إلى مستويات التلقي بحسب درجة التعلم والثقافة ونوع المهنة والبيئة والظروف. وبناء على هذه يتحدد نوع الخطاب ولغته وخصائصه. كما يتعين الوقت الأنسب والإداة الأصلح لتقديم هذا الخطاب. أما صوره التي يؤدي من خلالها فهي كما نعلم الكتاب والمقالة البحثية والمقال الصحفي والمحاضرة والحوار وعرض الكتب والشريط المرئي أو المسموع والنشيد والأغنية والمعارض الثقافية وبقدر مراعاة طبيعة تلك المستويات وهذه الصور تتحقق الشروط الموضوعية والمنهجية ويكون مبلغ نجاح الخطاب في مهمته أو فشله في ادائها. مكونات الخطاب الإسلامي مع ملاحظة ان للخطاب الاسلامي مكونات رئيسية تتمثل في نوعين هما المكون الشرعي وهو ما جاء به الوحي الالهي من قرآن وسنة نبوية وهذا بالطبع أصل الخطاب الإسلامي ومنطلقة ومرجعيته الثابتة الدائمة لكونه صادر عن الله سبحانه الذي ابدع الوجود كله. ثم يأتي المكون البشري هو ما فهمه واستنبطه البشر من النصوص الشرعية وما نتج من ذلك فكرا كان أو فقها أو علوما أو أدبا. لذلك فهو فرع للمكون الاول ومؤسس منه واليه. وبما ان المكون الشرعي قد اكسبه مصدره الرباني خصائص الربانية والشمول والثبات والتوازن والمرونة والصلاحية لكل زمان ومكان ونظرا لتباين الفهم والاختلاف في التحليل والتفسير والتأويل فقد كان لا بد من وجود شروط لكل ذلك متفق عليها بين العلماء في مقدمتها إتقان العربية وفقه اسرارها على مستوى العصر الذي نزل به الوحي وعاش فيه الرسول الامين. وليس وفق معايير ومناهج مستوردة تتكلف تشريح النص تشريحا مخلا بالعنى والمقصد. فالخطاب الاسلامي له وضعه الخاص فهو لا يتغير ولا يتبدل في جوهره أي في ثوابته الاساسية المرتكزة على المكون الشرعي مهما تغير الزمان والمكان والمتلقي وبغير هذه الثوابت لا يكون الخطاب اسلاميا ولا يمثل حقيقة الاسلام وخصائصه. اما المكون الآخر ففيه يكون الاجتهاد والتطوير بما يراعى المخاطبين وظروفهم العامة والخاصة زمانا ومكانا وقد حدد فضيلة الشيخ القرضاوي في هذا الشأن: (إذا كان المحققون من أئمة الدين وفقهائه قد قرروا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والفتوى تتعلق بأحكام الشرع فإن نفس هذا المنطق يقول إن تغيير الدعوة او الخطاب يتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال)، والشاهد أن الخطاب يتوجه الى فئات مختلفة متفاوتة فيها الطفل والشاب والفتاة والمرأة والرجل كل حسب مستواه التعليمي او الثقافي وحسب موقعه ومهنته وظروفه الخاصة وما نلاحظة على هذا الخطاب عدم مراعاته لطبيعة هذه الفئات ومن ثم غياب الرؤية الفكرية الموحدة وقد ادى ذلك لافتقاد الخطاب الاسلامي المتفق عليه بين كثير من مؤسسات الدعوة ورجالات الفقه والشريعة. وكذلك غياب الفتوى المتفق عليها في كثير من الامور التي تهم الامة وتمس شؤون دينها مثل رؤية الهلال! هذا علاوة لتعطيل المؤسسات والمنابر المتخصصة والمؤهلة لتقديم المعرفة الاسلامية الصحيحة في بعض البيئات الاسلامية او عرقلتها او توظيفها لخدمة المآرب السياسية ولجوء الناس او بعضهم ولا سيما قطاع الشباب الى تلقي المعرفة الدينية من طرق غير مباشرة او متخصصة ولا ذات منهجية وهذا بدوره يؤدى الى تصورات ومفاهيم ومواقف وانماط من الغلو والتطرف. وقد يحدث ذلك في غياب المدارس التربوية الاسلامية الرشيدة كان طبيعيا ان تظهر الانحرافات الفكرية خصوصا وان اولئك الشبان هم ضحايا التعليم المدني الذي لم يوفر لهم قدرا مناسبا من الثقافة الاسلامية وهكذا فإن إغلاق الابواب المشروعة دفع بعض الشباب الى طرق الابواب غير المشروعة والتي أفرزت ثقافة الظلام ونتاجها خليط من الشذوذ والانحراف. أسباب ضعف الخطاب الإسلامي والناظر الى تلك الاوضاع وما يسودها من اضطراب وغياب للتخطيط والتعاون والرؤية الشاملة المحددة، يلاحظ ان الخطاب الاسلامى على مستوى العالم ضعيف ومتخلف عن منطق العصر وآلياته ومناهجه بل لولاء بعض الجهود القليلة والمتناثرة لقلنا إنه غائب وفي اجازة محدودة عن عالم اليوم. ومع صعوبة تشخيص هذا الوضع وتحديد ملامحه فإنه يمكن ادراك بعض الملاحظات منها: رغم امتلاك الدول الاسلامية الى عدد من الثروات الطبيعية الهائلة كالنفط والغاز والحديد والفوسفات والنحاس واليورانيوم هذا علاوة للثروات المائية والزراعية، ورغم ان تعدادها السكانى يتجاوز المليار واربعمائة مليون منهم آلاف الأدمغة مهاجرة تعمل في خدمة الدول الاجنبية تسهم في تطورها، فإن ما تنفقه هذه الدول من اموال ومن برامج ومشروعات لتبليغ رسالة الاسلام الى شعوب العالم وانقاذها من ظلمات الضلال في الدنيا وسوء المصير فى الآخرة وللتعبير عن قضايا الامة الاسلامية في المعترك الدولي فإن ما تنفقه الدول الاسلامية امر مؤسف اذا ما قورن بما تحظى به المسيحية والماسونية وسائر المذاهب والحركات الهدامة من جهود للانتشار والتمكين في العالم. مع ملاحظة ان كثيرا ممن يهديهم الله الى الاسلام هم اعلام مشهورون في مجتمعاتهم المحلية وبعضهم له شهرة واسعة ولهم تأثير كبير على الآخرين لكن قليلا منهم من اتجه للعمل لنشر الدعوة إلى دين الله ووظف علمه او موهبته او مكانته او ثروته لهذه الدعوة كما فعل (كات ستيفن) المغني العالمي المعروف الذي تسمى بيوسف الاسلام ونذر فنه وماله وحياته للدعوه الى الله. وكما فعلت الاميركية المسلمة مريم جميلة والمستشرقتان الالمالنيتان آنا ميري وزيغريد هونكه وغيرهم كثر. هؤلاء لا شك في انهم واعون بمقتضيات العصر ويمتلكون ادوات الدعوة الناجحة وفي الإمكان توحيد جهودهم وتوجيهها من اجل خدمة خطاب اسلامي راق وفعال. وبسبب تفرق كلمة المسلمين في ديارهم وفقدانهم الخطاب العلمي الجاد الموحد استحال اهتداؤهم الى برنامج علمي يجمع شمل اولئك المهتدين الجدد القادرين على تقديم الخطاب العالمي المطلوب. علما بأن الخطاب الاسلامي تواجهه تحديات تختلف من بيئة الى اخرى، وعليه لا بد ان يتسلح الخطاب بكل ما يؤهله لمواجهة تلك التحديات وان يطور أدواته ومنهاجه باستمرار دون المساس بثوابته ليكون في مستوى الاحداث والافكار قادرا على التبليغ والحوار والتواصل والاقناع. من التحديات أجهزة الثقافة والاعلام العربية بمختلف وسائلها فهي لسان الانظمة القائمة ولها دعم مادي وسياسي وليس عليها حظر لذلك يجب ان تكون الاداة الاولى في غسل الادمغة وتوجيهها هذا إضافة لغياب الثقافة الحديثة المتنوعة والجهل بقضايا الأمة الاسلامية الحديثة والمعاصرة. نحو تطوير الخطاب الإسلامي لذلك لا بد من تطوير الخطاب الاسلامي والانطلاق به وفق خطة علمية عصرية شاملة جاده لتحقيق المطلوب. وعلى الامة الاسلامية ممثلة في الدول الاسلامية والجمعيات والمؤسسات الاسلامية ان تعمل على تكوين هيئة اسلامية عليا من رجال الفكر والدعوة المشهود لهم بالعلم والمعرفة والجدية واخلاص العمل لله لوضع خطط وبرامج شاملة لتطوير الخطاب الاسلامي بكل مستوياته وصوره وأساليبه بما يمكنه من مواجهة الحاضر والمستقبل مواجهة واعية ويتم ذلك بإجراء مسح شامل لاحصاء الطاقات القادرة والجادة لانجاز هذا العمل. مع ضرورة تعويد الناشئة على النقاش وادب الحوار وحسن الاستماع وقبول الاختلاف وغرس مبادئ السماحة والمرونة فيهم وذلك عن طريق التربية الاسرية والمدرسية من خلال مراجعة المقررات الدراسية لتنشئة اجيال بعيدة عن الغلو والتطرف ولا تنحدر في منزلق الرفض والتخريب والارهاب. كذلك لا بد من إعادة النظر في آليات الخطاب الديني عامة والخطاب الاعلامي خاصة وإسناد امانات هذه المواقع الحساسة الى اهلها المتخصصين القادرين ممن يخشون الله في علمهم ويعملون لصالح الامة والوطن والدين، علاوة لاعداد موسوعة شاملة بكل اللغات العالمية الحية وذلك بأقلام طائفة من المتخصصين المسلمين للتعريف بالاسلام الحق كذلك لا بد من قيام الخطاب الاسلامي المعتدل بالتواصل والحوار مع مؤسسات الامم الاخرى العلمية والثقافية والدينية والتربوية والسياسية والحرص على متابعة انشطتها والمشاركة فيها من خلال خبرات علمية متمكنة ومخلصة وواعية.