ماذا وراء ترحيل المهاجرين من السودان؟    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    أكوبام كسلا يعيد قيد لاعبه السابق عبدالسلام    الخارجية: رئيس الوزراء يعود للبلاد بعد تجاوز وعكة صحية خلال زيارته للسعودية    الأمر لا يتعلق بالإسلاميين أو الشيوعيين أو غيرهم    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يستقبل رئيس وزراء السودان في الرياض    طلب للحزب الشيوعي على طاولة رئيس اللجنة الأمنية بأمدرمان    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    البرهان: لن نضع السلاح حتى نفك حصار الفاشر وزالنجي وبابنوسة    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    يوفنتوس يجبر دورتموند على التعادل    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    د.ابراهيم الصديق على يكتب: معارك كردفان..    رئيس اتحاد بربر يشيد بلجنة التسجيلات ويتفقد الاستاد    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ربع قرن من العذاب..!!قصة إغتصاب وطن!
نشر في السودان اليوم يوم 08 - 07 - 2014


بسم الله الرحمن الرحيم
ربع قرن من العذاب..!!
مدخل للأنين:
قصة إغتصاب وطن!
مر ربع قرن علي هذا النظام، شئ لأ يصدق!! ربع قرن من الأحزان والبكاء وخيانة الحاضر والبصق علي المستقبل! ربع قرن كانت كافية، لإخراجنا من ذواتنا من وجودنا من ذاكرتنا من إنتماءنا، وتحولنا الي مجرد أشياء، دون ملامح دون إرادة دون قدرة علي التشكل والفعل! وأصبحنا فقط، حالة من الشلل الفكري والضمور الوجداني والوجود القسري والتواجد العبثي، في نطاق منطق الزمان الصاعد، وسنن العزف علي سلم الكون الإبداعي! ربع قرن كانت كافية، لنعتنق عقيدة الكفر بالوطن الإنسان السلطة قانون التطور والإحترام لنا للآخر للبقاء! ربع قرن من الهروب الجماعي الي المنافئ الرؤومة، والدواخل المُفقرة والسابحة في عالم البؤس والإحباط والعناء! ربع قرن ونُحن نُعاقر مُشاهدة الأمساخ، وهي تتفنن في إشباع شهوتها الجامحة للسلطة للمال للنساء للإزدراء! ربع قرن ونحن نئن تحت سياط العذاب والفلس القيمي والمادي، في أعتي لحظات حضور التخثُّر والخمول وسيادة قانون الدمار وإدمان الفساد! ربع قرن كانت كافية، لإزاحة لُغة التفاهم والتواصل والتراحم والغناء! ربع قرن كانت كافية، لمسخ أوطاننا وتراثنا وأحلامنا وأحجارنا! ربع قرن كانت كافية، لتُصاب أرضنا باللعنة وتحمل أشجارنا الثمر الحرام، وتتفجر خرائطنا بخطوط طول النحيب وعرض المحن! ربع قرن، وأولياء النعمة يخطبون في المساجد بالخطب الصفراء وقصائد الفتن الهوجاء، ويفجرون الدين من الداخل ويبعثون الغضب والحقد من الدواخل، التي هداها طول الظلام! ربع قرن، ووطننا مستباح، للمكر للغرباء، ومسكن لغربان الشؤوم، ومأوي للصوص في الداخل ومصاصي الدماء في الخارج، ووكر للجريمة المُنظمة، وأرض خصبة للخطيئة المخدرات غسيل الأموال جنون وعربدة السلاح! ربع قرن ولم يرتاح وطننا مرة واحدة، دون أن يترك عادة ممارسة خيانة الأمانة وحقوق الإنسان، او ينسي إدمانه عادة قتل المواطنين الأبرياء وتشريد فلذات كبده في العراء! أو إستبشاعه لمعني التنكر وغدر الوفاء! ربع قرن ولم نشهق مرة واحدة، في وجه غول التثاؤب والإنفلات ووجع القبح وفواجع رحلات الفقر في الصيف والشتاء! ربع قرن ولم نتصدَ لحملات التطهير الجائرة ضد أرواحنا كرامتنا قيمنا وطننا!! آهٍ علي وطنٍ، ينكر أبنائه حاضره ماضيه! آهٍ علي وطنٍ، يسكنه الخوف ووعد الشقاء! آهٍ علي وطنٍ، لأ يجيد سوي صناعة المحن ويحكمه قانون البغاء! آهٍ علي وطنٍ، يعشق اللعب بالنار، والتسكع علي شفا جرف هارٍ، ومعاندة خطئ التاريخ ومداعبة خطر الإنتحار! آهٍ علي وطنٍ، لغته الآهة وطريقه الدموع وطعم الأسف!! ربع قرن فترة كافية، لنسأل أنفسنا أسئلة الحرقة والدم والكرامة، من نحن؟! وكيف حدث هذا؟! والي أين نحن ذاهبون؟!
ليس بعيدا عن الحقيقة أن يوصف نظام الإنقاذ، بأنه نظام حاز علي الفشل والسوء من كل أطرافهما، بل هو نظام يحتاج لقاموس خاص، تُدرج فيه أعماله وسيرته، ليسهل إستيعابها! بعد أن أرهق كاهل اللغة، وعجزت كل تعابير وأوصاف السوء والعجز والدمار عن مقاربة حقيقته او توضيح صورته، البالغة المآسي والنتائج الكارثية! سواء علي مستوي التنمية البشرية و تطوير المواطن إبداعيا وروحيا، اي تماسك الإجتماع الداخلي وتمتينه. او علي مستوي الدولة وطريقة التعاطي مع السطة والحكم، وتضمين الحرية والمشاركة داخل نسيجهما! فهو نظام عجز عن المُحافظة علي إيجابيات الفترات التي سبقته وإنقلب عليها! وفي نفس الوقت أهدر علي الوطن ومواطنيه فرصة ثمينة للإنطلاق! سواء بمعالجة الأخطاء السابقة بصورة توافقية او بإحترام إرادة الناخبين، وهي أفضل آلية علاجية، لإزالة التشوهات والإلتباسات من نقصان جهد التجربة وإنحرافات جسد الممارسة الديمقراطية، أو سوء إستخدامها! بمعني، أنه لأ يمكن مُعالجة أخطاء التجربة الديمقراطية، بقتل التجربة ذاتها وإهدار دمها وتشويه صورتها وسمعتها، والتعامل معها كرجس من عمل الشيطان! فسلوك كهذا غير أنه يتميز بالجهل والغرور وقصر النظر، إلا أنه يحمل وعي تخريبي! أي إنعكاس لنفسيات حاقدة وتعاني من أمراض إجتماعية ونفسية شتي! أي إجتماع الجهل والحقد في آن! وفي إجتماع كهذا او في حضور هاتين الآفتين، لأ معني للسؤال عن حصاد الهشيم او التدمير الممنهج للوطن، او آلية إدارته او المحافظة علي مكوناته الداخلية في حالة إستقرار. ولكن ما مصدر هذه الأمراض او الآفات؟ وبصورة أدق لماذا كان نتاج حكومة الإنقاذ بكل هذا القدر من السوء؟؟ الإجابة الحاسمة الكاملة قد لأ تتوفر الآن، ولأ في أي وقت! طالما إننا إزاء التعامل مع نشاط إنساني، يسهل تفسيره وفق قواعد وإستدلالات منطقية، ولكن الأكيد أنها خارج سيطرة قواعد العلوم التجريبة بالغة الصرامة والدقة. أي العلوم الإنسانية التي قد يندرج تحتها هذا التقييم، هي أقل يقينية وأكثر عرضة للتقلب والإستثناءات، وقد يعود ذلك لطبيعة الإنسان المُعقدة ذاتها. ولكن بمساعدة قراءات أخري ووجهات نظر عديدة، يمكن أن ينسب، سبب هذا الدمار الإنقاذي الرهيب، الي مركب إشكالي او الي عاملين أثنين متداخلين، ويستمدان من بعضهما القدرات التدميرية الهائلة! اولهما، عامل نخبوي إنتظم التيار المدني الداعم لنظام الإنقاذ، وواضع أسسه التنظيمية والفكرية ووسائل عمله! بمعني آخر، إن نظام الإنقاذ هو حاصل معرفته وسلوكه، او ناتج كسبه! او التفسير الفاضح لمدي وعي وتربية أعضاء هذا التيار!! وإشكالية العامل النخبوي ترجع الي أنه تعبير عن حالة مأزومة، او عن أزمة مجتمعية يعاني منها هذا التيار! بتعبير أوضح، هو فصيل أتيحت له الفرصة للتعليم الحديث، خاصة نسخته الأكاديمية الأشد عقما، فيما يلي المعرفة العامة والشاملة والمُنجِّزة، ذات الأبعاد والمضامين الأنسانية والإندفاعية ناحية المصلحة العامة! فهذا التيار تربي علي أساس أنه مميز( أفراده شطار!). وبناءً علي ذلك، تلقي ميزات تفضيلية! سواء علي مستوي الحالة المعيشية او من خلال التعامل مع أدوات حديثة(لغة جديدة زي جديد قضايا وإهتمامات جديدة!) إلا أنها كانت مفصولة او معزولة عن التيار العريض في المجتمع! أي التعليم النخبوي ذي الخصيصة الأكاديمية، خلق نوع من العزلة(ابراج عاجية) بينها وبين الجماهير العريضة، وظروف حياتها وحقائق واقعها وتاريخها وإرثها! بتعبير آخر، قامت هذه النخبة بإحداث نوع من القطيعة مع غالبية الجماهير، او قامت بإحداث نوع من التقسيم الطبقي المستند علي التعليم الأكاديمي الضيق حصريا! وهي طبقية تعليمية لها إفرازاتها علي الوعي والثقافة والسلوك العام! وطبيعي هي من يشغل موقع الطبقة القيادية، أي الأكثر فهما والأسمي قيما والأقدر علي قيادة الآخرين! وبالطبع لأ ينفصل ذلك عن شيئين مهمين، أولهما إمتياز القيادة ماديا وإجتماعيا! وثانيهما إحتكار المعرفة والقيم، بعد وضع معاييرها الخاصة عليها او صبغها بصبغتها والأصح مصلحتها! وخلاصة ذلك، ما يصدر عن النخبة القائدة، هو الصاح والحق والقيم الخيرة والصالح العام!! وترتب علي ذلك، نوع من الوعي الوصائي والسلوك الإحتكاري، الذي يبيح لها السيطرة علي الجماهير بأي وسيلة! أي سواء كانت وسيلة عُنفية(إنقلاب) او وسيلة ناعمة(ديمقراطية صندوقية) خالية من المضمون الديمقراطي الحقيقي! وكلاهما يُكرسان لحالة تدجين الجماهير وسلبها حقوقها. أي قيادة الدولة في طريق الإتجاه الواحد، أي طريق الحق للحكومات والواجب علي الجماهير! أي ميلاد الدولة القهرية وتأبيدها او إعادة إنتاجها بصيغ متعددة! اي الدولة المفصولة عن الجماهير او دولة أمنا الغول! أي الدولة التي تجهد نفسها، في الإهتمام بتشكيل عقولنا وطرائق تفكيرنا ومراقبة ضمائرنا ومقاسات ملابسنا، ومدي المسموح وحدود الممنوع! إلا أنها أقل إكتراث، لحريتنا وكرامتنا وحق مأكلنا ومشربنا ومسكننا ومكان عملنا، وكل ما يبقينا علي قيد الحياة! وبكلمة واحدة تحول الوطن علي يديها الي حظيرة! وعموما هي نخبة وعيها وعي حظائري، وسلوكها ليس أقل حيوانية وغرئزية! وفي هذا الإتجاه، قد تشترك نخبة الأنقاذ مع غيرها من النخبة المعارضة، التي تجاورها في الأفكار والسلوك او الفهم للسلطة والرؤية للجماهير! وقد يكون في هذا تفسير، لأحد أسباب عجز المعارضة، في التصدي لهذا الحكم الغابي العقيم! ولكن إشكالية الإنقاذ كما أسلفنا هي إشكالية مركبة، او تحوز نموذج الشر المُطلق، غير قابل للعلاج او التفاهم او التحاور! أي في وجوده لأ مكان للحلول الوطنية ولا فرصة للتحرر من قبضة الخراب ورهن الحاضر للدمار والمستقبل للضلال! ونقصد بالجزء الآخر من هذا المركب، الوعي الديني للمشكل السياسي! والوعي الديني بجميع نسخه، أي سوي كان معتدلا او متطرفا، فهو وعي نخبوي او وعي خلاصي بإمتياز، غير قابل للجدل او المناقشة وحرية الرأي والرأي الآخر، و تقبل نسبية الحقائق وتتداخل القضايا وتعقيداتها! أي هو وعي ناجز او نافٍ للعقل والتعقل ومُصادر لبيئة التفكير او طرح القضايا الدنيوية علي طاولة البحث والنقاش، وهما الطريقان الوحيدان لمقاربة تلك القضايا لحلول أكثر وأقعية وفائدة للجمهور العريض. حتي ولو كانت حلول أقل مثالية وطوباوية، إلا أنها محكومة بالتاكيد بشروط لحظتها وهو الأهم!
المهم بإمتزاج الوعي النخبوي مع الوعي الديني، دخل تيار الإسلام السياسي او المورد التنظيمي والفكري والتخطيطي لنظام الإنقاذ، فيما يشبه أزمته الشاملة، وهي أزمة إنعكست بدورها علي الوطن، أي حقل تجريب او مدار تنفيس الكبت الديني والإجتماعي لهذه المجموعة! وعندما تجتمع هذه الأزمة مع المؤسسة العسكرية، ويحدث لها نوع من المماهة مع هذا المشروع المأزوم، لأبد أن يصيب الدولة السودانية ما أصابها، وما ينتظرها من أهوال إذا ما ترك لهما المجال ليصلا بأزمتهما الي نهايتها المنطقية! وهي إذهاب ريح الوطن وتركه أثر بعد عين! خاصة بعد إنكشاف عجز وخواء وفخ المشروع الهلامي المسمي بنظام الإنقاذ وأكذوبة المشروع الحضاري! والأصح هو مشروع معاداة الحضارة والفطرة السليمة! وكيف لحضارة أن تبني او تزدهر، في ظل جماعة مجردة من الإنسانية والفكر السليم والإحساس بالجمال، ولأتقوي علي الحياة خارج بيئة الفساد والدسائس وعشق الظلام! أقصي ما يمكن أن تقدمه هذه الجماعة التخريبية، هو الإتجاه عكس أفكارها وسلوكها وتصرفاتها، كمخرج وحيد للخلاص من هذا العبث الطفولي الجهول! المهم بما أنه مشروع يحمل طابع الإيديولوجية الخلاصية، فتاليا هو مشروع له قدرة ذاتية بالغة علي الإنكار، وقلب الحقائق والوقوع في حضن التبريرات الصبيانية، المخاصمة للجدية المنهجية والعلمية وروح المسؤولية الوطنية! كوهم المؤامرات والإستهداف..الخ من المبررات التي تعفي خاطر فشلهم وإمتيازاتهم من شر المساءلة، ناهيك عن المحاسبة او مجرد التشكيك! ولو آمنا جدلا ببكائية المؤامرات ومتكأ الإستهداف، فالجماعة تشكل أكبر مؤامرة علي الوطن، وأخطر إستهداف لتماسكه وقابليته للبقاء، ولأ نملك ترف توقع النهوض في ظلها! وبكلمة واحدة، الأزمة المركبة تقود الي الفشل المركب، وتاليا صعوبة العلاج وتأخر نتائجه، وهو ما يحتاج لمزيد من الجهد والصبر والإيمان بقضية الوطن وحقوق المواطنين! وكل هذا يقودنا لمفارقة جديرة بالإهتمام، وهي أزمة النخبة السودانية هي من أنتجت أزمة النخبة الإسلامية، أي إستفادت من الفراغ الذي أحدثته تلك النخبة، بعجزها عن تقديم مشروع واقعي ومرن وطموح، لإدارة الدولة السودانية! والنخبة الإسلامية بدورها حرفت القضية الإجتماعية/السياسية، من قضية تنمية وسوء إدارة سياسية، وخلل في توزيع الثروة القومية بصورة عادلة ومتوازنة! أي تعميم للخدمات والإحترام وتعلية شأن المصلحة العامة! وحولتها الي قضية نزاع هوياتي وصراع ديني! أخطر ما يكونان في ظل مجتمعات متعددة عقائديا وإجتماعيا كالمجتمع السوداني! مما يؤكد إستلاب هذه الجماعة لمشاريع خارج جغرافية الوطن وتاريخه وراهنه! بمعني، إن طرح مشاريع ذات طابع ديني في مجتمعات متعددة، هي وصفة جاهزة للمشاكل، وليست أدوات او مفاهيم للحلول! لأ حلول عملية مع وعي الإستلاب أو في دولة الخيال/الخراب! لذلك أي حلول لأ تمر عبر تواضع النخب وإنفتاحها علي الجماهير، وسعيها لتكسيِّر الفواصل والخطوط الوهمية بين أفراد الوطن، وبغض النظر عن إنتماءاتهم او وظائفهم او مراحل تعليمهم. سيكتب لها الفشل، وستكون مرحلة أخري لكتابة تاريخ جديد، بمداد الجرائم والمآسي وإمتداد لنظام الإنقاذ سيئ الصيت!
ولكن ماهي النتائج التي ترتبت علي قيام كيان ديني بتولي زمام السلطة، مثل مشروع الإنقاذ في السودان؟! في الحقيقة النتائج التي ترتبت علي قيام هكذا مشروع ظلامي، بالإستيلاء علي السلطة غلبة، عديدة ونجملها في عدة نقاط:
أولاً، شكلت تجربة الإسلام السياسي في السودان، نموذج للحكم يدعو للهرب والنفور والإبتعاد منه(السعيد يشوف في غيرو)! وهذا أفاد بدوره دول الإقليم والمنطقة ككل، من رهن مصيرها لهذه النوعية من المشاريع، التي تحاول أن تحل أزمتها الخاصة، بترحيلها الي الوطن والمجتمع! عبر تفكيك الوطن وضرب تماسكه، وكذلك إختطاف السلطة ومصادرة حرية المواطنين. وبتعبير صريح، الفشل في كل مناحي الحياة سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا...الخ، والسبب بسيط، لأ يمكن حل إشكالات الحاضر بمفاهيم وأدوات الماضي، أي فاقد الشئ لأ يعطيه، بمعني آخر، هي مشاريع للهدم وإشعال الفتن وليست مشاريع للبناء والتقدم!
وثانياً، أثبت فشل قيام مشروع الدولة الدينية، صدق أطروحات المشاريع العلمانية، خاصة حديثها عن إنسداد أفق هذه المشاريع، وتاليا فشلها في إقامة دولة حديثة علي أسس دينية تميز بين المواطنين داخلها! ولكن الأهم أنها ألقت بالمسؤولية علي هذا الفصيل لطرح مشروع بديل متكامل، هذا من ناحية. وقريب من الجماهير وتاريخها وعمقها الحضاري، من الناحية الأخري! ومعلوم أنه عمق يتداخل فيه الديني بالدنيوي. أي يطرح علي الفصيل العلماني أن يتخفف قليلا من تغريبه، لتقل غربته الداخلية ويزيد إقترابه من الجماهير! أي يتصالح مع الحاضر ولأ يستحي من الماضي! ليمنع المشاريع الإسلاموية من الإستثمار المجاني في هذا العمق الحضاري، بصيغته العاطفية الشعاراتية المأزومة، تجاه الحضارة الحديثة ومنجزاتها! ولن يتم ذلك إلا عبر نزع الأسطرة والقداسة والتميُّز الأجوف، من التراث وشخوصه ومن عقول ونفوس أبنائه في الحاضر! وتاليا إنفتاحهم علي أفق أرحب، من الإنسانية والتواصل والمشاركة مع الآخرين، في تحسين شروط الحاضر ومعالجة أخطاره. وذلك بالطبع بعد الإعتراف بفضل الآخرين ودورهم المبدع في هذا التطور الراهن. أي إيمانهم بأن الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، هذه الحقيقة الجوهرية. أما تعامله مع الحياة ومقدار كسبه او إخفاقه، فهذا هو الهامش. الذي يجب الإستثمار فيه والإهتمام به وتطويره تجاه الخير العام. والأهم من ذلك، هو الإيمان بقابلية الجميع للتجاوب مع حركة التاريخ! فقط المطلوب ترك الأحكام المسبقة وإحتكار الحقيقة والفضلية لكائن من كان!
وثالثاً، أيضا طرحت تجربة الإسلام السياسي، قضية أخري ولكنها ذات خصائص متعاكسة! أي خلقت نوع من التطرف في التفكير والمشاعر، وهو ناتج بدوره من الخلط بين المطلق والنسبي او معايرة النسبي بالمطلق، او التوهان ما بين النصوص والممارسة وعدم القدرة علي الفصل بينهما، او التعامل الإنتقائي عند التناول الشامل لأحدهما! ونقصد بذلك أن تجربة الإنقاذ او مشروع الإسلام السياسي في السودان، أنتج نوعين من التطرف! أحدهما تطرف ديني او مزايدة في إتجاه الديني، أي مزيد من إستخدام الدين، ليس في الشأن السياسي فقط، ولكن في كل تفاصيل الحياة، وبصورة تدعو للرثاء والمفارقات الكاريكاتورية! أي ساعدت التجربة الكيزانية، في بروز المزيد من التيارات السلفية، الأكثر تشدد وقابلية لإستخدام العنف وتبريره! خاصة وهي تفترض أنها تمتلك النموذج الأمثل للدين، الذي يصحح مسار الإسلام السياسي، الأكثر براغماتية والأقل إكتراث لقيم الدين، أي أكثر إنفتاح علي قيم الدولة ولغة السياسة(تصحيح، لأ يُعرف عن الإسلام السياسي سوي الشبق السلطوي والشره لإمتلاك متع الحياة، مؤكد أن النسخة السلفية من نفس الطينة، سوي أنها أكثر تطرف في التعبير عن ذلك، لضعف إحتكاكها بالمشاريع والأحزاب والحياة السياسية!) أي إشكالية الإسلام السياسي تتمثل في التطبيق حسب مفهوم هذا التيار! أي في تنازله عن صحيح الدين مقابل مزيد السلطات والإمتيازات الدنيوية! بمعني، إن التيار السلفي مؤمن بصحة المنهج وخطأ الوسائل! والحال كذلك، فهو يعدنا بدولة أكثر تزمت ومفارقة لروح العصر، أي الإجهاز علي ما تبقي من حطام الوطن! كيف لمريض ومأزوم أن يمنح علاج للآخرين، فالأولي أن يبدأ بنفسه؟!
أما التيار الآخر، الذي أفرزه نموذج الإسلام السياسي الحاكم ليس في السودان فقط، و لكن كذلك في إيران وأفغانستان! وهو تيار يدعو لمزيد من الإبتعاد عن الدين، وإهانة رموزه، والتشكيك في جدواه الروحية والقيمية! أي الميل للإلحاد، وبكل ما يعنيه ذلك، من هدم لقيم قائمة وراسخة وأثبتت جدواها تاريخيا وفوائدها الجمة روحيا، ومن دون خلق بديل موازٍ! أي تحويل العقل والعقلانية الي عقيدة بديلة، حسب تعبير البعض! وتاليا حرمان البشرية من مورد أخلاقي وقيمي وتحرري، وذو مردود وجودي قل نظيره واثبت فاعليته، خصوصا في نسخته الصوفية العالمة، أي القائمة علي المعرفة والمحبة والصدق والسمو الأخلاقي والحرص علي المصلحة العامة وخلاص البشرية في أروع تعابيره! وهذا التيار يصح وصفه بالنخبوية المتطرفة او السلفية النخبوية! وهو أقل إحترام للمتدينين وإكتراث لمعتقداتهم وميولهم وطريقتهم الخاصة في التعامل مع الحياة! أي كونك متدين فأنت بسيط وجاهل ومغشوش ومغيب، وغير متحضر ولأ عقل ولأ عقلانية لك! فالعقل والعقلانية يعتنقها غير المتدينين حصريا، أي ماركة مسجلة بإسمهم، ونادٍ لأ يرتاده إلا العباقرة والمشغولون بقضايا العقل والفلسفة والتفكير العميق! وفي الحقيقة تحميل المشكلة للدين، هو نوع من الهروب من مواجهة إشكالاتنا الحقيقية وعجز عن طرح حلول لها! وغير أنه يسفه وجدان غالبية عظمي من الجماهير، فهو أبعد من أن يقدم لها حلول لمشاكلها اليومية. وهي بالطبع ليست دينية، ليكون علاجها فيه او خارجه! كما أنه أكثر إنصرافية وعزلة ونخبوية تُدمن من أجل الإحساس بالتميُّز او المتعة الخاصة!
ورابعاً، أحدثت تجربة الإسلام السياسي او دولة الإنقاذ في السودان تغييرات جوهرية، في بنية الدولة والمجتمع! ليس من السهولة العبور فوقها او تخطيها بسهولة! بتعبير آخر، شهدت فترة حكم الإنقاذ نوع من سيطرة النزعة الإنقاذوية او الثقافة الإنقاذوية لو جاز التعبير، أي أزاحت الإنقاذ كثير من القيم الخيرة في المجتمع، والضوابط من المعاملات او في التعامل مع كيان الدولة كجهة مؤسسية! لصالح قيم إنقاذوية تتميز بالتجاوز للقيم واللوائح وتسفيه القانون والمؤسسية، وسيادة الإنتهازية وزيادة الحرص علي المصلحة الخاصة، او توظيف العام من أجل الخاص. وكذلك البحث عن الخلاص الفردي، والعزوف عن العمل العام، والسخرية من المصلحة العامة! إي في سبيل بقاء الإنقاذ في الحكم، لم تتوانَ الجماعة الإسلاموية، في تحطيم تماسك المجتمع وتقويض أسس الدولة! أي سعت بكل جد لضرب الأساس القيمي والتنظيمي للمجتمع والدولة! والذي يُمكِّن الجماهير من بناء عقيدة وطنية، وإنتظامها في كيان او جسم سياسي، يساعدها علي الصمود، أمام تيار الدمار الإنقاذي الكاسح. او يعينها لأحقا علي الخلاص من هذا الكابوس الإنقاذي الأليم! وتم ذلك عبر، إستبداد الإنقاذيين المتحكمين في السلطة الأم، خلق نوع من الإستبدادات الصغيرة علي طول البلاد وعرضها، أي نموذج السلطة في المركز تم تعميمه علي كل الوطن! أي تجده في كل ولاية ومحافظة ومؤسسة ومستشفي ومسجد..الخ، وهو نموذج يقوم علي إعلا شأن الشعارات والدعاية السياسية والبهارج الشكلية الإحتفالية، علي حساب العمل والإنتاج والإنجاز وبرامج التنمية الحقيقية، أي كثرة الوعود وقلة المردرو! أي تمت عملية إبتذال للعملية السياسية وهيبة السلطة وتغييب للمؤسسية والمسؤولية! وتاليا فقدت الدولة ملامحها ووظيفتها وتحولت الي جهاز حزبي يدار بعقلية أهلية وطبيعة عشائرية! وكانت النتيجة أن تاهت الدولة عن المواطنين، وأصبحوا لأ يشعرون ليس بالإنتماء لها فقط، ولكن بالعداء تجاهها والإحتقار لمن ينتمي لمؤسساتها حتي ولو لم يكن إنقاذيا! ولكن ثقافة الإنقاذ كانت من الخطورة بمكان، لدرجة أنها كانت كاسحة، وأجتاحت حتي من يظنوا أنهم يعارضونها! أي سادة نوع من السلبية العامة، المتمثلة في عدم المبالاة او الإكتفاء بالسخط(والنقة!) ضدها، هذا من ناحية! ومن ناحية مقابلة، كراهة التنظيم والإنتظام في جبهات عملية ذات مردود إيجابي، سواء في العمل العام وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، و بالمحافظة علي ما تبقي من يقظة وروح المبادرة! او لمواجهة سلطة في غاية الضعف، كسلطة الإنقاذ، التي تفتقد الدعم السياسي والأخلاقي ومجرد إحترام رجل الشارع العادي! ويتدني منسوب أهليتها للقيادة يوما بعد يوم! أي قوة الإنقاذ تكمن في ضعف الآخرين والعكس صحيح!
الخلاصة، ربع قرن فترة كافية، بل لأ نحتاج لعشرها، لمعرفة خطورة هذا النموذج من الحكم، علي المجتمع والدولة وعلي الحاضر والمستقبل! وهي أيضا كافية للمعارضة لإجراء عملية جرد حساب لهذه الفترة، ومعرفة نقاط الضعف والقوة في العمل المعارض، وما هي الفرص المتاحة ونسبة نجاح كل فرصة، ومدي عملية هذه الفرص والنتائج المترتبة عليها. لأن الفشل الحقيقي ليس في إستمرار الإنقاذ فقط، ولكن في تركها تتعامل مع الوطن كأنه أرض جرداء، ولأ يحوي تنظيمات سياسية وشعب له سبق وريادة في التصدي للظلم وفرض إختيارته علي الجميع! و الفشل الأكبر، هو تصوير نظام الإنقاذ وكانه باقٍ، ولأ سبيل للخلاص منه، إلا بإعطائه فرصة أكبر لتشكيل المستقبل! فلا مستقبل مشرق يتوقع أن ينتجه الظلام! فالظلام لأ يلد إلا الظلام!!
آخر الكلام
أن يستمر نظام مُفلس ومُجرد من المنفعة والمصلحة العامة، كنظام الإنقاذ لمدة ربع قرن فهذه محنة! ولكن أن يطرح هو نفسه مشروع للحوار، ويدعو المعارضة للمشاركة في حل إشكالات الوطن التي سببها بنفسه(إشكالاته/مخارجه)، وتصدق المعارضة هذا الهذيان الفج! وتمنح النظام الفرصة تلو الفرصة، فالمحنة هنا أكبر!! ولكن أن تمارس المعارضة نفس الأساليب والأدوات التي فشلت في إرسال النظام الي مزبلة التاريخ المسكينة، وتعتقد أنها صالحة لإيصالها الي هدفها، فهنا الكارثة أعظم!!!
ولكن إذا غيرت المعارضة أساليبها وأدواتها، هل تظل هي نفس المعارضة؟؟ في الإجابة علي هذا التساؤل يكمن التغيير!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.