أمين محمّد أبراهيم. [email protected] (إنا نغنّيك لا نُبْكيكِ تُرْثيكَ القصائد). بفقدكَ نفتقد ويفتقد، فقراء و كادحو السودان، و مناضلوه من كل الطبقات، و الشرائح الإجتماعية المتباينة، قائداً ثورياً فذاً، و رباناً حاذقاً متمهراً في قيادة ركب الثوار، و مثالاً و قدوةً رائعةً في الوطنية، و مُعَلِمَاً قلما يجود به الزمان. و عزاؤنا إن كان هناك ثمة عزاء، هو أن الحياة و تجاربها قد علمتنا، أن عظماء الرجال من أمثالك، لا يموتون، بل يرحلون بأجسادهم فقط، و تبقى من بعدهم، مبادئهم ومآثرهم المجيدة، و ذكراهم و أفكارهم، ما بقي الناس و بقيت حياتهم. إذن فهم يؤكِّدون برحيلهم فعلاً، بعض تجليات قانون "و حدة و صراع الأضداد"، متمثلان في الوجود والعدم، الحياة و الموت، البقاء و الفناء. و إذا كنا لا نحيد عن الحقيقة، إذا قلنا أن الموت هو صنو الحياة، و يلازمها كوجه آخر لها، فإننا نعزز جوهرها و نؤكده، إذا قلنا أن من يفنون حياتهم مثلك، من أجل بقاء الآخرين، يستحيل غيابهم المادي، إلى إمتداد طبيعي لحياتهم، العامرة بالبذل و العطاء و إيثار الآخرين. ألا ما أفدح الفقد و أبهظ الخسارة، ولكن بعض العزاء، في أنك باقٍ و خالدٍ، بين الخالدين من عظماء الوطن والإنسانية. و ها تاريخك المشرق المضئ، يقرأه الناس جميعاً، ليس كأصداء واقعات ترددها، أغوار التاريخ وحكايات الزمان، بل ككتاب مفتوح أمامهم اليوم، تدور وقائعه الدافئة، بين صفحاته كأحداث ماثلة، صنعتها أنت و ثلة من أبناء جيلك العظيم، وقائعا تتناسل و تتفجر بتفاصيلها، موارة و طازجة و كانها وقعت لتوها لآن. و ها رفاقك في الحزب، و زملاء الدرب في الحركة الوطنية الواسعة، و أبنائك و تلاميذك في النقابات و الصحافة وغيرها من مجالات العمل العام، يقرأون و معهم أولادهم و أحفادهم، سجل تاريخ نضالك التليد. و يترجمونه إلي دروس و عِبَرْ للأجيال كافة. ومن عِبَرِ التاريخ، التي جسدها رحيلك، أن من كان ذكره، للمجد طُراً كذكرك، لا يدركه النسيان، و أنه عصي على الغياب، الذي لا يقوى على طي صفحات، من سخَّروا حيواتهم و كرَّسوها بالكامل، لإنتصار و سيادة قيم نبيلة، كالتي نذرت لها كل حياتك، بسخاء و زهد يجلان عن الوصف، و تجرُّد و نكران ذات، شهد بهما جميع من عرفوك. وها أنت الآن ترحل، صوب الوجه الآخر للحياة، لتتواصل مسيرتك النضالية، التى بدأتها قبل أكثر، من ست عقود من الزمان، قضيتها في معارك نضال متصل، من أجل الوطن وشعبه، وثورته الوطنية الديمقراطية. (نذكر الآن الآن جميع الشهداء كُل من خطَّ على التاريخ سطراً بالدماء كُل من صاح بوجه الظلم لا لا) و الشهداء هم رفاق حياتك، و زملاء دربك الطويل، حيث كنت معهم دائماً، في الصفوف الأمامية، في كل معارك الحرية والديمقراطية، و سائر الحقوق الأخرى. و نعلم أن حياتك و حياة رفاقك، كانت محل إستهداف دائم، و أن الجلاد الذي سلب روح رفيقك، الشهيد صلاح بشرى، في سجون مصر، ظل يتربص بروحك أيضاً. و أن السفاح الذي أزهق أرواح، عبد الخالق والشفيع و جوزيف، بعد ردة 22 يوليو 1971م الدموية، كان يحلم بإزهاق روحك أيضاً. و نعلم أن محض الصدفة، و حذاقة شعبنا و حسن تدبيره، المستمد من بعض دروسك له، هى التي حالت دون لحاقك بجحافل شهداء الوطنية والديمقراطية، و هم يرحلون عنا زرافات و وحدانا، في كل معركة خاضها شعبنا ضد خصومه، رعيلاً إثر رعيل، ك "رَمْزَ إيمانٍ جديدٍ بالفداء و رَمْزَ إيمانٍ جديدٍ بالوطن". " نحن رفاق الشهدا الفقراء نحن الطيبون العاملون و المناضلون نحن النساء العاملات و نحن أمهات الشهدا آباؤهم نحن إخواتهم نحن إخوانهم نحن نحن جنود الثورة التقدمية" إذن فنجاتك بحياتك العامرة، من كيد الكائدين، وتآمر المتآمرين، و حفظك من تربص المتربصين كان بعضه من عطايا الأقدار، كما كان الآخرمن صنع سداد التدبير و حسن طالع شعبنا معاً. ليقف الشعب بنفسه على تجربة مناضلٍ ظل يدافع عما يؤمن به، في إستقامة و بسالة و صلابة، منذ نعومة أظفاره، مرورا بمراحل العمر المختلفة، حتى آخر نبض في عروقه. تتغيّر القوى التي تستهدفك، و تتبدل أساليب التآمر و أسلحته. و أنت كما أنت كالطود الشامخ، لا تخيفك المقاصل و لا تهزك المشانق. و تمضي في طريق الثورة، غير هيّاب و لا وجل، و بقلب مفعم بالإخلاص لقضايا الشعب، ، يخلو قاموس مفرداته، من التردد أو المساومة أو النكوص والتراجع، و بإرادةٍ فولاذية التى لا تعرف سوى الإصرار و التصميم، و عزيمة قوية لا تعرف الوهن و الخَوَرْ، و همة وثّابة لا تعرف إلا الإقدام و الإقتحام، وركوب الخطر من أجل الغير. ويشهد الجميع أن كل ذلك قد كلفك الكثير من العنت و التضحيات، فما ترخى عزمك و لا لانت قناتك، بل كنت دائماً أكثر إستعداداً، لبذل المزيد من التضحيات، في سبيل قضايا شعبنا الحيوية، وحقوقه الأساسية. فما أنبلها من حياة، كرّستها طواعيةً و عن طيب خاطر، في سبيل مبادئ و قيمٍ عظيمة بذلت حياتك لها. في دفاعك أمام محكمة أمن الدولة، قلت: "أنني أعتز بأنني ما زلت، مستعداً، لبذل كل تضحية تتطلبها القضية النبيلة التى كرَّست لها حياتي. قضية حرية الوطن و سيادته تحت رأية الديمقراطية والإشتراكية. ولست أقول هذا، بأية نزعة فردية، فأنا لا أجد تمام قيمتي و ذاتي و هويتي، إلا في خِضَمِ النضال الذي يقوده شعبنا و قواه الثورية". وهو ذات ما عناه رفيقك "راشد"، أمام المحكمة العسكرية في مطلع الستينات، بقوله أن الحياة تعطى مرةً و احدة لا تتكرر، و يجب أن تبذل من أجل مبادئ و قيم سامية، حتى لا يندم صاحبها على ضياعها هدراً. و قد رأينا كيف أهدر حياتهم، غيرك ممن يتكالبون على المغانم، فيبذلون حيواتهم، من فرط شح أنفسهم، لهمومهم الذاتية، و مكاسبهم الشخصية، فلا غرو إذ نراهم يغيبون و هم يمشون بين الناس ، أحياء كأموات. أما سخي النفس سمح السجايا، و وسيم العقل و الفكر والوجدان، مثلك فيستعصي على الغياب، فلا يغيّب الموت منه إلا الجسد. و تبقى المبادئ و المواقف و الأفكار، كشعلة باهرة من الضياء، تنير كالفنارة الطريق أمامنا، و ترشدنا إلي سواء طريق النضال كالبوصلة . ألم أقل لك أستاذنا الجليل، أنك ستبقى حياً بيننا، في الكليتون والساقية و الميدان، وكل الأشكال الأطر و المواعين التنظيمية والمنابر التى بادرت مع آخرين في بنائها لنا و لشعبنا، بعماله و زراعه وكافة كادحيه، و لنسائه وشبابه و طلابه و مثقفيه، "طوبة طوبة" أو "قشة قشة". صادق التعازى إذن، للشعب و للحزب الذي بنيته، وأعضائه شيوخاً و شبابا، كباراً و صغاراً، نساء و رجالا، التعازى لزملائي بالميدان، والتعازي لرفيقة دربه و حياته، الأستاذة فتحية بدوي، و إبنته الأستاذة عزَّة التجاني، وصهره الصديق محمد خالد. و ختاما لا نقول لك و داعاً، بل نلوِّح لك بكلتا يدينا، سلاماً سلاماً، أستاذنا الجليل، التجاني الطيب بابكر، نِمْ هانئاً قرير العين، فقد عشت حياتك، "غيرياً" كما أردت، راهباً في محراب النضال الثوري، وبذلتها بسخاء لأجل الآخرين، "تحف عند الوغى و تعف عند المغنم". فما أعظمها و أنبلها من حياة. دمت حياً و راحلاً، في الخالدين.