ما لي أنكر هذا الكمون والجمود على شعبي؟ هل ينكر إنسان نفسه؟ 23 عاماً مضت، ولا شيء في دولاب الحياة السودانية يتقدم إلى الأمام، ولا تنفك القنوات الفضائية تَهْرف بكل ما لا يَمُتُّ إلى الحقيقة بصلة، فتدعي تقدم الاقتصاد، وتحسن مستويات التعليم، وارتفاع مستوى المعيشة، بل تضفي على جيش البلاد قدرات ليس له قبل بها. 23 من السنوات تصرّمن، وحياة السودانيين نقيض الصورة الخيالية الزاهية التي تبثها فضائيات الحكومة السودانية، إذ فاق معدل التضخم 23 في المئة، وارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية إلى مستويات تفوق طاقة المواطنين، وتلاشت حتى انمحت تماماً الطبقة الوسطى، ولم يعد هناك سوى طبقة غالبة من الفقراء والمستضعفين والمنبوذين والمغبونين. الواقع نقيض الصورة الإعلامية التي يحاول أقطاب حكومة بيعها للبسطاء، فكلما تململوا من الضنك وقلة الحيلة وضيق الحال، أجابوهم بحرب أهلية في أحد تخوم الوطن الذي لم تعد فيه جهة لم تثخنها جراح البغضاء والعنصرية والدم، وكلما فاحت رائحة فساد الأقطاب ومحاسيبهم، خرجوا عليهم بحكاية جديدة عن سودان مستهدف، وأخطار مزعومة تهدد الإسلام والمسلمين في السودان. لا يكف المرء عن التساؤل المحموم، بل المجنون: هل هو الشعب نفسه الذي علمني أن الحق حق، وأن الباطل باطل، وأن النزاهة والعفة وحسن السيرة هي رأسمال السياسي؟ هل هو الشعب نفسه الذي يسعني بتمهل وطمأنينة أن أقول إنني منه وإليه انتمي؟ ما له يستجيب بلا داع لمحاولات «التخذيل»؟ ويسمح لعقله الجمعي ب «الطشاش» تحت وطأة حملات غسل الأدمغة التي احترفت فضائيات الحزب الإنقاذي إنتاجها وبثها على مدار ساعات اليوم؟ ما له لا يريد أن يستيقظ من غفوة تدمير الذات، والتفرج على الخراب وهو يعم النفوس والعمران ويعمي عيون الصغار؟ ما لي لا أنكره وقد كدت أنكر نفسي، من هول ما أنا فيه من اضطراب واكتئاب وكرب. فقد رأى أبناء جيلنا كيف انهدت أمام أعيننا، لبِنةً فلَبِنَة، مؤسسات التعليم العام والعالي التي رعت تكويننا وتأهيلنا، وكيف تحطمت ودُكّت قاعدة الأخلاق المتينة التي كانت تحملنا حتى على إعانة البهيمة العاطلة، وستر المرأة الكاشفة، وإغاثة الملهوف، فأضحت ثقافة الأخلاق في عهد لا يعرف أحد إلى أي حزب ينتمي التعدد في الزيجات والوظائف والرواتب والامتيازات والمقتنيات. وما لي لا أنكر نفسي وما عهدت في شعبي صبراً على أمر فيه عوج؟ كيف يصبر وقد جفت ضروع حرائره من سقم وجوع ومسغبة، ولم تعد بينهن ولود تنجب أطفالاً يكبرون ليصبحوا مواطنين صالحين، لا يسرقون المال العام، ولا يفسدون في الأرض فيزيدون حال أهلهم وبالاً؟ هل يعقل أن أولئك هم الذين يطيلون أمد هذه المحنة؟ فكلما رفع المواطن البسيط رأسه، دهشة وتساؤلاً وحيرة، عاجلوه بأحاديث الإفك ونغمات الزيف عن «النهضة الزراعية»، و«الثورة التعليمية»، و«توطين العلاج»، و«مكافحة الفقر»، و«إصحاح البيئة». وعلى مدى الأعوام ال23 اللاتي تصرّمْنَ لا نهضت زراعة، ولا تأهل طلاب لتخرج مستحق، ولم تعرف مشافي البلاد سوى الإهمال والأخطاء الطبية واستنزاف جيوب المرضى؛ وبدل المكافحة شهد الفقر تعزيزاً وتمكيناً، أما البيئة فإن أدواءها وأسقامها تحكيها الصور التي تعرضها فضائيات الحكومة من مدن السودان المختلفة. وما بقيت في قلوب السودانيين ذرة من تعاطف مع النظام وأقطابه الذين استخدموا ترسانة الألفاظ والعبارات الدينية لمداراة سوءاتهم السياسية، وشنيع أفعالهم، وتبييض وجوهم التي اسودّت في عيون الشعب. فقد أضحت الجحافل تزحف من طلوع الشمس لتمتهن مسألة الآخرين، والتحايل على المستغفلين، وممارسة النفاق على من اغتروا بالسلطة والثروة. صار العاطلون جيوشاً جرارة بلا حد. وأصبح النجاح في الحياة رهناً بالانتماء إلى القبيلة، ودَهْناً للوجوه بمساحيق الانتماء إلى وهم «الحركة الإسلامية» ، و«فهلوة» لا تعرف ترفُّعاً عن السرقة والنهب والغصب و«الاستعباط»، من بعدما كان ديدن السودانيين أن ينجحوا ب«شطارة» نابعة من تعليمهم، وأمانتهم، ونزاهتهم، وعفتهم. ما لي لا يحق لي أن أنكر أنهم من خُلِقْتُ فيهم، وترعرعت بينهم، بعدما أضحوا لا يعرفون إلى أين هم مُساقون؟ هل تحتاج النتيجة المنطقية البسيطة. * صحافي من أسرة «الحياة». [email protected]