وكما صدق دسالين وهو يصف حاضره صدق نبؤته فى المستقبل، إذ جسد أبي أحمد رئيس الوزارة الذى حل محله أحلامه كافة فى قيادة تحمل الحاضر إلى المستقبل، فأبي أحمد بشخصه يمثل التنوع الدقيق الذى يسم أثيوبيا بأكثر مما يظن العجلون فينسبونه لمجرد إسمه الى الاسلام أو المسطحون الذى يربطون مجيئه بالإنتصاف لأقلية الأرومو الغالبة عددا، فمشهد الوداع بين الرئيس المغادر والرئيس القادم لا يذكرنا أبداً بمشاهد القارة القارة لدينا والتى ظلت تحملها لنا التلفزيونات منذ حين، أعنى مشاهد إقتحام الأبواب وإفزاع الأسر وإنتباه الرؤساء من بملابس النوم وقد روعتهم لعلعة الرصاص. منظر دسالين واسرته وأبي أبى وأسرته ذكرنا بمشاهد الوداع بالبيت وليس القارة السوداء. وكما يرتكب القادة العظام أخطاء عظيمة سنة الله فى الذين خلو من قبل، تندفع الشعوب بعد الثورات المجيدة فى العنف وعهود الإرهاب وتدفع بفلذات أكبادها الى المقصلة كما دفعت ذرية الأنبياء بأخيهم الأصغر الأجمل الى غيابة الجب، فقد إتصلت الحرب بعد الكفاح المشترك الطويل بين أثيوبيا وآرتيريا، آرتيريا كأنها تستأنف حرب التحرير بعد أن إستشعرت أنها تحاصر فى لقمة العيش، وأثيوبيا يمنعها لاشعورها ألا ترى آرتيريا ألا أخاً أصغرا يؤمر فيطيع. وقد تلجلج الافريقى يومها والى حين المصالحة القريبة بين المحورين، كما يتلجلج الاقليم العربي اليوم، ولكن أبي أحمد إختار سبيل الصالحين، فذكر أيام الجفاء فى أيام الوفاء جفاء. مضى أبي أحمد الى آرتيريا كأن لم يكن، ذكرنا كذلك مشهد آسياس وهو يوزع بسخاء الابتسامات الى ضيوفه مع القهوة كذلك بتقاليدنا التى تجمع بين الإمامة والزهد بين الرئاسة والتواضع. ولولا أن القادة العظام يتوبون من قريب بتجربتهم أو بفطرتهم، فيستشعرون معاناة شعوبهم ويصيح فيهم نداء من دواخلهم أن كفى كفوا أيديكم، فيجيبون أحسن إجابة، ما قام إليهم العالم يعينهم ويمهد لهم الطريق، جهود القاهرة والرياض وأبي ظبى المبرورة المشكورة جاءت لأن الأثيوبيين والآرترين أصلحوا أمرهم بنية صادقة خلق الحضارة الذى أشرنا اليه، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، سنة ثانية من أقدار الله فى التاريخ، وسنة ثابتة مهما اشتدت مؤامرات المتآمرين ومهما دقت مكائد الكائدين، لولا أن فى المؤامرة عزاءٌ للفاشلين وهاجس أثير يعشقه الموسوسون. تحدونا تجربة أثيوبيا وآرتريا أن نتطلع بأمل الى سلفا ومشار، أنهما سمعا النداء واستجابا له بأحسن وجوهه، فدولة الجنوب إذ ولدت بأسنانها أعملتهم فى عملية عض الأيدى كما أعملت سواعدها فى كسر عظام أنفسهم، فقد ولدوا من رحم دولة فى مقدورها أن تعينهم حتى يستووا على أقدامهم، فمهما تكن مرارة الفطام ففصاله فى عامين، وهى محاطة باقليم صديق ولدى عالم إستبشر بها وقد جاءت على كبر من أحلام الامبريالية المسيحية، فقبل أن أكمل هذا المقال رجّ أبي أحمد العالم بتصريح آخرٍ عظيم : أن لابد من الديمقراطية، ذلك نداء المستقبل تصيخ اليه أفئدة الذين وعوا، وحرىٌّ برياك ومشارك أن يسمعوه بأوضح مما سمعه أبي أحمد، فقد تهيأت الانسانية فى طريق حرية الانسان وكرامته وعدله وكفايته ولات حين مناص. بقى أن أقول أن الجلنار هو زهر الرومان الثمرة التى تنتظم هذا الاقليم، تزهر الثمار اذا وضعت الحرب أوزارها كما يثمر سائر الزرع والضرع، روح وريحان وجنة نعيم.