حملت صحف الخرطوم الصادرة بالأمس مفارقةً باعثةً على السخرية إذ ترافق على صفحاتها خبران أولهما هو "عزم النيابة العامة على أن تحسم ملفات قضائية عالقة في مواجهة أقطاب النظام الساقط أبرزها تقويض النظام الدستوري.." وثانيهما: أنّ "إبراهيم محمد السنوسي" ينوي الترشح لرئاسة نادي المريخ في الانتخابات المقبلة.." "وإبراهيم محمد" سوى أنه ظل مساعد الخليع عمر البشير إلى ساعة سقوطه، هو سابع أولئك النفر، السبعة الذين أدركوا تفويض التنظيم بالإعداد للإنقلاب العسكري، فبدأوا جاهدين يكملون تدابير تقويض النظام الدستوري ووأد الديمقراطية الناشئة وإسلام البلاد الثلاثين من يونيو 1989 إلى حكم دكتاتوري غاشم امتد على مدى ثلاثة عقود عجاف. قال صاحبي، يستلهم عبارة سارت في دارج كلام الناس: "ليت هذا الرجل يرقد فلا يموت" قلت: ولمَ العذل هذا شخص قد طاف الذهول به، سقط البشير، فضّل عن رَغَمٍ، وهو الذي هام بحبه حتى أنه كان يدلله فيناديه: "أبوعِميرة" بيد أن وقع الشوائب قد ضلله وأعمى بصيرته أن يقرأ الكتابة على الجدران، لا يكاد يدرك أن سلطة الإنقاذ قد زالت، والدهر بالناس قُلّب إذ هو في سكرته "توب الفلهمة تلقى يجرجر وتوب الدين شفاف وقصير" لا يعيَ أن الحال تبدل وواقعاً جديداً قام في البلد، لذلك يتصرّف بطريقة عادية وهذه (العادية) تبدو هنا أبشع من كل فظاعات الإنقاذ. سادرٌ في غيّه يسير مكباً على وجهه "إِن يَلقَ صابا يَرِد أَو عَلقَمًا يَسُمُ" يظن أن بمقدوره أن يتسوّر محراب الجامع الكبير فيقرّظ العسكر قبل أن تتدراكه هبّة المؤمنين تطهر مسجدها من دنس الصلاة الخداج والقول اللجاج، لكنه لا يتعظ فيأتمر مع الملأ من قومه في إحدى القاعات فتحيط به غضبة الثوار فيضطر أن يتسلل لواذاً فاراً من الأبواب الخلفية. ثم ها هو في ضلاله القديم يحاول أن يلج إلى الحياة العامة عن طريق نادٍ فاشل في لعبة لكرة القدم وهو أمر خليق به، لو كان الزمان عليل والبشير في خيله ورَجله، يحيطه الانقلابيون، البراغماتيون، الذين لا يؤمنون إلا بسلطة القوَّة الحاسمة الغاشمة دون عناء الفكر أو الأصول، فكر الحركة وأصولها العقدية التي أهريقت على أيديهم يوم أسلموا البلاد ومصائر العباد لعسكري خوار، جبان، فاقد للأهلية والكرامة وعزة النفس مما يتحلى به حتى صغار الضباط.!! وكأنهم لم يجدوا في الناس غير أبي عِميرة ؟؟ أما اليوم.. فلا. يوم يفتح النائب العام قضية تقويض النظام الدستوري، فيجد "ديك المسلمية يعوعي" في دار ناد فاشل في لعبة كرة القدم، غير آبه ولا مدرك لما يحيط به فلا يسعفه، وهو المتعسكر المنضبط بالأمر والطاعة، الملتزم بقيمة الكتمان الغليظ، المستُور كُله عن العَلَن، المُتحفِّز للعمل وفق التعليمات لن يسعفه سوى منطق أدولف آيخمان: "إنني لم أقتل أحداً أبداً ولم آمر بقتل أحد.. كل خطيئتي كانت إطاعة الأوامر... الطاعة تعتبر فضيلة في العادة.. الزعماء النازيون استلوا طاعتي للأوامر أبشع استقلال.. أنا مجرد ضحية.. الزعماء وحدهم هم الذين يستحقون العقاب.." مشى آيخمان إلى المشنقة مرفوع الرأس بخطوات ثابتة، قبل ذلك طلب زجاجة من النبيذ الأحمر، شرب نصفها، ورفض مقابلة القسيس الذي أردا أن يهون عليه بقراءة الإنجيل. قال "لم يبق لي من الحياة إلا ساعتان وليس لديّ وقت لأضيعه" أما صنيع النازيون الجدد، إذ يوخذوا بالنواصي والأقدام، فقد رأينا طرفاً منه في أول جلسات محاكمة زعيمهم الخليع، فلم يلبث لفزعه وهلعه أن وشى بمدير مكتبه وأصدقائه وزوج قريبته.. وما يزال الليل طويل ونحن مقمرون. سنرى.