أوثق الحيران رباط الرجل الغريب .. جاءوا به إلى الشيخ في المسيد.. كان كل واحد من الدراويش يقدم رواية تختلف عن رواية أخيه.. أجمعوا على أنّ الغريب انتابه مس من الجن عندما شاهدهم يضربون بالسياط أحد المجانين..الشيخ حاول أن يوفق بين الرؤى المتضاربة.. طلب منهم أن يفكوا قيد الغريب وينصرفوا.. تلكأوا في تنفيذ التعليمات خوفاً على شيخهم.. الصوفي رفع يده اليمنى قليلاً ليغطي بصره.. كان تلك الإشارة التي تعبر عن نهاية الجدال.. انصاع الدراويش وخرجوا من أبواب متفرقة. منذ اليوم الأول أدرك الشيخ أنّ الغريب يحمل سرا.. قبل أربعة أيام جاء الغريب إلى المسيد.. ينتعل حذاءً أنيقاً يعلوه غبار كثيف.. ملابسه من الصنف الممتاز ولكنها متسخة جداً..عندما دنا من الشيخ لم تكن نظراته تستقر في مكان واحد.. تحديداً كانت تهرب من ملاقاة بصر الشيخ.. سأله الشيخ "من أي البلاد"..رد الغريب باقتضاب "من الخرطوم".. ثمّ حول بمهارة مجريات التحقيق عندما أخبر الشيخ أنّه رأى رؤية تخبره بالهجرة إلى كردفان وحفظ القرآن على يد شيخ المسيد.. في هذه اللحظة هلل مجلس الشيخ. حمل الشيخ الإبريق وصب ماءً على إناء قديم جعله الشيخ سقية لعصافير المسيد.. طلب من الغريب أن يشرب.. نفذ الرجل توجيهات الشيخ بخضوع المريد.. خاطبه لأول مرة باسم وراق.. جذع الغريب ورد "من أخبرك يا شيخنا"..الشيخ بهدوء وابتسامة خافتة "رأيت ذاك في منامي". الشيخ أمر ابنه أن يجعل لوراق دون غيره من طلاب العلم قطيّة.. ويزوجه من إحدى حسان القرية.. بدا وراق سعيد بحياته الجديدة.. يرتدي جبة الدراويش بمتعة.. ويتلو القرآن بتروٍ صباح مساء.. المكان الوحيد الذي يتجنبه الدرويش وراق كان عيادة الشيخ خلف المسيد. بعد سنوات همّ الشيخ بزيارة الخرطوم.. جعل وراق خليفة على المسيد.. كل الملفات من السهل التعامل معها إلا (مساجين الشيخ).. بعضهم قضى سنوات في القيد.. وفريق منهم أصابه الشفاء في أيام معدودات.. جرعة الدواء الراتبة كل صباح كانت سياط لطرد الجن الذي يسكن الأجسام. زار شيخ وراق العيادة.. رأي من بين المساجين الشبح الذي كان يطارده طوال السنوات الماضية.. طالب الجامعة الذي شجّ رأسه في أحد الأيام .. المشاهد كانت تتزاحم في رأس الشيخ بالإنابة.. تذكر جيدا.. إخوته في التنظيم جاءوا بهذا الفتى.. أخبروه أنه يرفض الإدلاء بأي معلومات عن نشاط العدو في الجامعة. طلب من زملائه الخروج من الغرفة.. كان الطالب السجين مقيد الأيدي معصوب العينين.. لم يعد وراق يتذكر شيئاً غير دماء ملأت الغرفة.. بدأ السجان يصرخ والسجين يلوذ بصمت غريب.. بعد نحو خمس دقائق جاء زملاؤه الطلاب وحملوا الجثمان.. أخبروه أن يتصرف ويبتعد عن مسرح الجريمة. ملف السجين يقول حسب رواية ذويه أن الرجل لم يتحمل خبر موت شقيقه الطالب الجامعي.. منذ ذاك الوقت يصر المجنون أنّ أخيه حي يرزق. فك وراق قيد السجين بنفسه.. هجر المسيد ومضى إلى أقرب نقطة شرطة وقال لهم "أنا قتلت هذا الرجل".. ضحك ضابط الشرطة وابتسم المجنون وبكي وراق.