فعلا خطب كل القادة العرب الكلمنجية كوم وخطب الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري كوم آخر، ورغم ان الرجل نوبي مثلي فإنني ما كرهت شخصا قط مثل كراهيتي له وفاروق الفيشاوي ونادية الجندي، فقد حبا الله نميري مقدرة فذة على اللغو واللقلقة، وفي الذكرى الاولى لاستيلائه على السلطة أي في مايو من عام 1970دعا الزعيم المصري عبدالناصر والليبي معمر القذافي الى ملعب كرة القدم في الخرطوم (كان وقتها اشتراكيا على يسار جيفارا، أي قبل 13 سنة من تنصيب نفسه اميرا للمؤمنين ثم الزعم انه طار الى الاراضي المقدسة والتقى عليا كرم الله وجهه- فات عليه انه بذلك اعترف بدخول المملكة العربية السعودية بلا تأشيرة وهذا لا يليق برئيس دولة!!) المهم انه بدأ يرغي ويزبد على الفاضي نحو ساعتين حتى كاد الملعب ان يخلو من الجمهور وعندئذ قال نميري: اصبروا شوية في حاجات حلوة، وكانت تلك الحاجات الحلوة قرارات تأميم ومصادرة ممتلكات بالجملة وكان كلما قرأ اسم مصرف او شركة طالها التأميم يلتفت الى عبدالناصر وكأنه يقول له: بص شوف نميري بيعمل ايه، وعلا التصفيق والهتاف فأخذت نميري العزة بالإثم وارتجل عدة قرارات: مصادرة كوباكبانا.. كدت ان اصيح فيه: عيب يا ريس..كيف تصادر «بار» خمارة لتصبح قطاعا عاما.. ولكنه أخرسني عندما اعلن مصادرة «مخبز الامانة» و«بقالة السعادة الزوجية»، وكشك للجرايد، وتذكر ان هناك تجارا اجانب يعملون في السودان منذ اكثر من قرن فقرر ان يطخهم ايضا بالاشتراكية، وقال: ومصادرة ممتلكات تشاكر وقلقوق (كان يعني يونانيا اسمه تشاكرغلو، وكان قد تردد في تلك الايام اسم تاجر هندي يدعى رامجي سامجي في صفقة قيل انها مشبوهة وتذكره نميري وهو في لحظة الانتشاء تلك فقال: ومصادرة املاك رامجي سامجي وسامجي رامجي وجميع آل سامجي (وبما ان آل سامجي كانوا - ولا يزالون - يقيمون في الهند فمعنى ذلك ان نميري قرر ان تمتد بركات اشتراكيته الى الهند والسند). وهناك قاعدة أو نظرية لا تخيب في قياس شعبية أي زعيم عربي: كلما أكثر من الظهور الجماهيري وكلما ألقى المعلقات الطوال على شعبه البائس، تأكد أنه مغرور ودكتاتور، ويحسب أنه يستطيع استكراد جميع الناس كل الوقت.. نميري لم يكتف بالخطب الجماهيرية الطويلة بل صار يقدم برنامجا تلفزيونيا اسبوعيا، القذافي كان يعطي «حصصا ودروسا» على التلفزيون لشعبه مستخدما الطباشير (واليوم صار البطل الثائر - من الخيمة والبادية هيييه - يخاف الظهور أمام الكاميرا، وبينما نرى جرذان ليبيا يسرحون في العلن، ويقفون على خطوط النار بجسارة، نجد القائد الفذ يتنقل من دار الى دار ومن زنقة إلى ورطة، طلبا للسلامة).. بشار الأسد يخطب عادة ثلاث مرات في السنة، ولكن الخطبة الواحدة تستغرق أسبوعا.. الرئيس اليمني علي صالح ظل منذ اندلاع المظاهرات المطالبة برحيله يلقي خطبا بتراء يفتك فيها باللغة العربية إلى أن أسكتته مؤقتا قذيفة. وذات يوم وبعد ان ألقى نميري خطبة عرجاء على نفر من اهل اقليم متاخم لاثيوبيا وقف خطيب منهم ورد الصاع لنميري صاعين بخطبة بلا جملة مفيدة واحدة، كان يقصد منها أن يقول إن وعود الحكومة غير موثوق بها، واختتم الكلمة ببيت من الشعر الصرين (عكس الرصين): وما نيل المطالب بالتمني .. ولكن التأمل في الخروج! يذكرني ذلك بواحدة من إشراقات ابنتي مروة عندما سمعت لأول مرة بكلمة فلافل التي نسميها نحن طعمية: بابا الفلافل نبات أم حيوان؟ [email protected]