بسم الله الرحمن الرحيم لغط الدين والدولة فى العالم العربى ..... وفى السودان مثال حى محمد بشير عبدالله [email protected] فى البدء لا بد من التأكيد على انى لست متفقها فى الدين الاسلامى ، لا بفهم السلف الصالح ولا الخلف المعاصر، ولكن فهمى فى الدين متواضع كجُل اهل بلادى المسلمين منهم ، اؤدى فرائضى اليومية و الاخرى بانتظام واقرأ ما يتيسر لى من الذكر الحكيم متى ما تسنح لى الفرصة وقد حجيت الى البيت العتيق - والحمد لله - اكثر من نصف دستة من المرات(نرجو من المولى عز وجل ان يتقبله) ، ليس ذلك غلوا او تبذرا بالطبع ولكن فقط لان الله قد قيض لى ان اكون بجوار بيته الحرام سنين عددا ، وانتهزتها فرصة لانعم بهذه الشعيرة ، لنفسى وانابة عن اهل بيتى الاقربين الذين انتقلوا الى الدار الآخرة وعلى رأسهم والدى رحمة الله عليه . كما انى لم اقرأ كثيرا فى الكتب الدينية القديمة بكل الوانها (الصفراء والبيضاء)، ليس ذلك لضيق وقت يشغلنى ولكن ارى ان هنالك اولويات دينية ودنيوية مرتبطة بالعصر الذى نعيش فيه قد لا نحتاج معها الرجوع الى كل تلك الكتب لاخذ الفهم الدينى الصحيح ، وانه اذا قضينا نحن مسلمو اليوم – وبامكانيات العصر الذى نعيشه - الزمن الذى قضاه فقهاء تلك الازمنة فى تأليف كل تلك الكتب ، وبامكانياتهم المتواضعة وبل المتخلفة تلك ، لاخرجنا لمسلمى اليوم وبل البشرية جمعا ما يهدينا الى ما هو اقوم واصلح لديننا ولدنيانا ، هذا مجرد رأى . مثال ومقارنة بسيطة بالامكانيات المتخلفة لفقهاء السلف (الصالح) ان الواحد منهم يعمل النهار كله ويواصل الليل فى بحوثه بانارة الشمعة – على احسن الفروض - وقد يوقف نشاطه ليلا لعدم وجود الانارة احيانا ويُدون فى الواح الشجر والجلود اضطرارا لعدم وجود الورق حتى يجمع فى النهاية كل ذلك فى كتاب ، وربما يختصر الواحد منهم كل عمره فى كتاب واحد رغم نبوغه واجتهاده . اما باحث اليوم فلا مجال للمقارنة بينه وبين باحث السلف الصالح ، حيث الكهرباء على مدار الساعة وادوات البحث من قرطاس واقلام ومراجع واجهزة حاسوب تكتب فيها بشكل لا متناهى حتى تيأس وطباعة حديثة ، والمعلومات متاحة بشكل مذهل حيث يمكنك الحصول على معلومة من كليفورنيا مثلا فى اقصى الساحل الجنوبى لامريكا وانت جالس فى اطراف مدينة الفاشر ، وذلك فقط بالضغط على ذر كمبيوتر ، امريكا تلك القارة الشاسعة التى لا وجود لها فى عقل الامام الشافعى او ابن كثير او ابن تيميه ، امريكا تلك الدولة العظيمة التى سادت العالم ليس بشئ آخرغير الاخذ بادوات العلم الحديث التى اتاحها الله لعباده المسلمين وغير المسلمين ولكن غير المسلمين تميزوا وتقدموا علينا حتى الآن ، ولا ارى سببا آخر غير اجتهادهم وتفانيهم فى العمل اكثر منا نحن المسلمون . فى هذا الخصوص ترانى اتفق مع الدكتور الترابى ، المفكر الاسلامى الكبير لدرجة التطابق فى رأيه عن السلف الصالح حيث قال : (كما هو واضح من اسمهم هم السلف يعنى الماضى، ولا يمكن أن تسمى نفسك رجعيا حتى لو كنت كذلك) ، ويضيف الدكتور الترابى ايضا : (.ظل الإسلاميون يأخذون بآراء واجتهادات الكتب القديمة، حيث حولوا الفقهاء إلى معصومين، على الرغم من أن القرآن يصحح للنبى فما بالنا بالسلف) . ما ابلغ الدكتور الترابى فى رأيه هذا ، هذا الرجل الذى يُنسب اليه معظم (بلاوينا) الحالية فى السودان ، ومع ذلك يحمل افكارا واجتهادات دينية نيرة قل ما تجده عند غيره من فقهاء اليوم ، ولكن اعماله السياسية للاسف "مهببة " على رأى الكثيرين ايضا ، واكثر ما يحيرنى على المستوى الشخصى هو كيف لمثل هذا الرجل بهذه الافكار يوافق على اعدام المفكر السودانى محمود محمد طه بحكم الردة ؟ ولكن تلك قضية اخرى . عموما تلك كانت مقدمة ، ونأسف لانى اسرفت نوعا ما فى شرح سيرتى (الدينية) الشخصية ولكن ذلك بقصد حتى لا يضعنى اصحاب العقول المتحجرة فى قوالبهم الجاهزة قبل اكمال قراءة ما انوى شرحه فى هذا المقال ، ونقول فيه : الثابت ان كل العالم يقر - بما فى ذلك الاوربيون وبقية العالم المتقدم الغير مسلم الآن - ان هنالك عهدا زاهرا من الحكم الراشد فى التاريخ القديم قبل اربعة عشر قرنا قد ساد ، وقد قام بتأسيس هذا الحكم الراشد سيد المرسلين الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم ) ، وقد تتابع نظام هذا الحكم بعدله وشوريته (ديمقراطيته) وزهد حكامه بعد وفاة الرسول الى خلفائه الاربعة ، ابو بكر ، عمر ، عثمان وعلى بن ابى طالب ، مع بعض الاستثناءات لمن اتوا من بعدهم امثال الخليفة عمرو بن عبدالعزيز وغيرهم قليل . اما من تلى هولاء(السلف الصالح الحقيقى) من الحكام المسلمين فان معظمهم قد فارقوا هذا الدرب على غرار عكس الشارع بالخطأ وفق قوانين حركة السير للمركبات المعروفة ، وبدلوه بالانظمة الدكتاتورية والفاسدة وانغمسوا فى المجون وملذات واهواء الحكم الى يومنا هذا ، واهملوا الرعية واصبحت معادلة الحكم مقلوبة ، بدلا من ان يكون الحاكم خادما للشعب اصبح الشعب خادما للحاكم ، واصبحوا يستغلون هذا الدين لاغراض السياسة بطرح شعاراته فقط دون مواكبة الدين او موءاومته بمتطلبات العصر من العلوم الحديثة وانظمة الحكم والسياسة والاقتصاد والتى تتغيير باستمرار وفق مساهمات البشرية لطرح الحلول لتعقيدات الحياة بشكل عام ، مستغلين عاطفة وغيرة شعوبهم الدينية لتخديرهم لضمان ولائهم ، مع محاولة ارهاب المعارضين وباسم الدين ايضا . اكبر تحدى واجه الحكام المسلمون واثبت فشلهم وجمودهم التى لا يستجيب لمتطلبات العصر ، هو ما جاءت به الثورة التكنلوجية وتطوير انظمة الحكم الجديدة فى عالم اليوم وضرورة اعتلاء الحكم بتفويض شعبى معلوم المدة(النظام الديمقراطى الانتخابى) ، وما تلاه من اصدار مواثيق عالمية جديدة للتحرر وحقوق الانسان برعاية الاممالمتحدة . رغم ان هذه المفاهيم قد عمت اجزاء واسعة من العالم سبق بكثير اصدار مواثيق الاممالمتحدة ، ومع ذلك تجد شخصا مسلما مثل الزبير باشا لا يرى حرجا دينيا او اخلاقيا او حتى عصريا من العمل بالنخاسة على مستوى تجارة الجملة الصادرة الى دول الجوار العربية و الاسلامية ، حيث كان يقيم اقطاعيات استعمارية فى جنوب البلاد وجنوب دار فور لاصياد الرقيق وتسفيرهم الى الشمال ومصر والشام ويرسل الجيوش لحماية طرق تصديرهم ومع ذلك نجد اليوم شارعا عريضا باسمه فى عاصمة البلاد الخرطوم تخليدا لذكرى اكبر تاجر رقيق فى افريقيا ، ويا للعار لكل الحكومات "الوطنية " منذ الاستقلال وحتى الآن . فقهاء الاسلام المعاصرون فشلوا فى اصدار فتوى واضحة مبنية على فهم معاصر للاسلام بتجريم او تحريم تجارة الرقيق او الرق بشكل عام ، وهذا الفشل سببه لان الفقهاء اعتمدوا على الكتب الدينية الصفراء القديمة والتى يستخف بها الدكتور الترابى الآن ، ولم يجهدوا انفسهم بالبحث لايجاد تفسير معاصر مناهض للرق والعبودية ، وما تجريمه القانونى الآن (وليس تحريمه شرعا) فى الدول العربية والاسلامية الا لضغوط مارسها عليهم الدول الغربية (الاستعمارية سابقا) ، باعتبار انها تتنافى مع قيم الانسانية و مواثيق حقوق الانسان التى اصدرتها الاممالمتحدة . لذلك تجد الرق حتى لوقت قريب فى بلد كالسعودية الغاه فقط العاهل السعودى الاسبق الملك فيصل بن عبدالعزيز ، ليس لقناعة دينية ولكن لرفع الحرج عن نفسه امام الرؤساء العرب امثال جمال عبدالناصر والذى كان يجاهر بالاساءة اليه بوجود الرق فى السعودية . ليس ذلك فحسب فان الرق ما زال قائما حتى الان فى دولة عربية مثل موريتانيا ، حيث ُيبعث "العبد" مع الطالب المتيسر للدراسة فى الخارج لخدمته ومع الحاج الى البيت الحرام لخدمته ايضا ، وموريتانيا معروفة بكثرة فقهائه مثل شعرائه ، ومع ان الشيطان يتبع فقط الشعراء وليس الفقهاء ، او هكذا حسب النص القرآنى على الاقل ! . على المستوى السياسى فى السودان فشل منظرو الاسلام السياسى وعلى راسهم اهل الانقاذ الحاليين على ارساء نظام سياسى يستوعب التنوع الدينى والعرقى لبلد كالسودان وذلك باقامة دولة المواطنة المتساوية . اصرار اهل الانقاذ على تطبيق الشريعة واقامة الدولة الجهادية ادى فى النهاية الى اختيار سكان جزء عزيز من الوطن لتقرير المصير واقامة دولة مستقلة فى جنوب السودان مفضلين بذلك الانفصال على العيش فى بلد يفرض عليك المواطنة من الدرجة الثانية بشكل ابدى ما دمت تدين بغير الاسلام وربما تدفع الجزية ايضا للدولة الاسلامية عن يد وانت صاغر . ونفس النظرة الاحادية للانقاذ يهدد الآن وحدة الجزء المتبقى من السودان بالاصرار على فرض ثقافية عربية ودين واحد على السودان المتبقى بعد انفصال الجنوب وهو الاسلام وهو خط قد رسمه بوضوح رئيس البلاد بعدم اعترافه بعد الانفصال باى دين او ثقافة اخرى للسودان غير العروبة والاسلام . ولكن هنالك مفارقة هامة وهى ان الخيبة السياسية والفشل التى يعترى الحكام المسلمون والتى يظهرهم وكأن الاسلام دين يتعارض مع المتطلبات العصرية ، هذه الخيبة للاسف يتصف بها الدول العربية اكثر من الدول الاسلامية الغير عربية الاخرى ، وان هنالك امثلة جديرة بالاشادة من الدول الاسلامية والتى اوجدت نفسها ضمن منظومة الدول المتقدمة ولم يكن الاسلام سببا فى تأخرها مثل تركيا وماليزيا والاثنان غير عربيتان . والمثير جدا للاعجاب ان الحزب التركى الحاكم الآن مصنف ضمن الاحزاب الاسلامية فى تركيا ولكن قادته حريصون جدا على ابقاء وصيانة الدستور التركى العلمانى والذى وضعه كمال اتاتورك (ابو العلمانية) ، ويعتبرون ان علمانية الدولة تعنى وقوف الدولة على مسافة واحدة من كل الاديان وبالتالى فان النظام العلمانى هو لحماية كل الاديان وان صفة العلمانية هى دائما للدولة وليس للاشخاص ، وبذلك يكون الرئيس رجب اردوغان رجل مسلم يقود دولة تركيا العلمانية حسب ما وضح ذلك هو شخصيا فى لقاء تلفزيونى او صحفى لا اذكره بالضبط ولكن نقل افكاره تلك الاخ بابكر فيصل بابكر فى مقال رائع فى موقع سودانيز اون لاين قبل ايام بعنوان (رجب طيب اردوغان ...العلمانية والديمقراطية لا تعارضان الاسلام ) ، وهو مقال جدير بالاطلاع . ونختم مقالنا ونقول : ان الاسلام السياسى الذى ادخله نظام الانقاذ فى السودان ، والذى به ارتكب من الجرائم والفظائع ضد الشعب السودانى سواء كان بالجهاد الذى مارسه فى جنوب الوطن والذى ادى الى فصله فى النهاية او سن قوانين (شرعية) قطعوا بها اوصال المقهورين من افراد الشعب او قتل الابرياء امثال مجدى ومساعد الطيار اللذان تم اعدامهما لحيازتهما لعملات اجنبية من حر اموالهما ، واخيرا ارتكابهم لجرائم التطهير العرقى فى دار فور والذى راح ضحيتها مئات الآلاف من الانفس البريئة ، واستمرار نفس المسلسل الآن فى جبال النوبة والنيل الازرق ، هذا الاسلام السياسى والذى شكلت ممارساته نقطة سوداء فى تاريخ الحكم فى السودان هو فقط من بضاعتهم الخالصة (اهل الانقاذ) ونسج ايديهم وعقولهم ولا علاقة له بالسلف الصالح الاول (الرسول وخلفائه الراشدين ) ويتبع ذلك كل اجتهاداتهم فى الاقتصاد سواء كانت فى الصيرفة الاسلامية او التأمين الاسلامى وغيرها . وبانتهاء حكم الانقاذ - وهو امر حتمى ان شاء الله فى القريب العاجل - سينتهى ايضا الاسلام السياسى من الحياة السياسية السودانية للابد وسيقام على انقاضه نظاما ديمقراطيا حقيقيا مبنى على المواطنة المتساوية ، لنحيد بذلك السلاح للابد لحسم اى قضية وطنية مهما تعقدت عناصرها . نشر بتاريخ 28-09-2011