الصديق أيها الأحباب سيرته عجيبة، كنيزك أضاء في خطفة وانزوى. في الثاني من أكتوبر الذي تفصلنا عنه أربعة أيام فقط يكون مضى على يوم رحيل الإمام الصديق عبد الرحمن المهدي نصف قرن. أجمع الناس على أنه قاد هذه الأمة في أيام مدلجات فكان قائدا هماما أرخص في سبيل بلاده كل غال. وهو الأب الشرعي لثورة أكتوبر المجيدة العام 1964م وقائد المعارضة الشرسة لنظام عبود منذ مهده. حتى أن غيابه المفاجئ والمفجع عن الساحة شل حركة المعارضة ويتّمها، وإن ضمد الناس جراحهم لاحقا ورتبوا صفوف المواجهة حتى كانت الثورة الظافرة. ومع أن قدر والده الإمام عبد الرحمن صار متفقا عليه وسط دوائر الأكاديميا والمعرفة الموثقة ، فاعتبره البعض باني السودان الحديث وأعظم شخصية سودانية في القرن العشرين، وكذلك دور ولده الإمام الصادق معلوم حتى لأعدى أعدائه، إلا أن دور الإمام الصديق غائب عن جيلنا والأجيال التي تلينا من شباب اليوم، وأذكر أن أحد زملائي بكلية الهندسة بجامعة الخرطوم قال لي إن جدك ?يعني الصديق- ما كانت له شخصية، كان ظلا لوالده! ولكنني كلما تتبعت سيرة الصديق أدركت مدى ضيم الإمام الصديق من أولئك الانطباعيين. للصديق شخصية ألوانها صارخة وفكرها قوي، وللغرابة لم تكن تشبه شخصية والده العظيم بحال. كان الإمام عبد الرحمن أبويا، وكان الإمام الصديق ثوريا، ولكنه حبس مارد الثورة في قمقمه برا بوالده، وألغى شخصيته في درب ذلك البر الأسطوري، وصادق حتى أصدقاء أبيه، فكل ما كان للإمام عبد الرحمن فيه دور كان الصديق فيه مشاركا أصيلا ، بل كان يد الإمام التي يصنع بها، ورجله التي يمشي بها.. كل شيء: العمل السياسي وإنشاء حزب الأمة- العمل الأنصاري وتكوين تنظيمات الأنصار- دائرة المهدي بأقسامها المختلفة بل وهو صاحب فكرة التمدد في القسم العقاري الذي صيّر للدائرة عمرا بعد أن بلغت روحها الحلقوم- العمل المجتمعي والاجتماعي.. إذا عزم الإمام على شيء أدخل فيه الصديق! وبرغم ذلك كانت له شخصية مختلفة أيما اختلاف، ولعل المرة الأولى التي يظهر فيها ذلك الاختلاف كان حول انقلاب 17 نوفمبر 1958م. روى الحبيب الإمام الصادق المهدي إن والده كان بإيطاليا مستشفيا حينما وقع الانقلاب، فقطع رحلته وجاء مسرعا ووصل الخرطوم بدون أن يخطر أهل بيته لاستقباله في المطار ، واتصل بولده (الصادق) ليأتي ويستقبله. ولما دخلا على الإمام عبد الرحمن في السرايا انفجر الصديق قائلا: ما هذا الذي فعلتموه يا سيدي؟ ورد الإمام: وماذا نفعل يا صديق؟ استدعى ذلك حال البلد، وقال الحبيب إنه انسحب لئلا يتحرج الاثنان من وجوده ولم يعلم ماذا دار بعدها، ولكنه كان مندهشا فهي المرة الأولى التي يرى فيها أباه غاضبا من الإمام أو مراجعا له. وفي الحقيقة بالاطلاع على بعض الأوراق، وقر بذهني أن الإمام الصديق راجع الإمام عبد الرحمن ربما كثيرا، ولكن ذلك لم يكن يرشح للآخرين ، فما يظنونه إلا سائرا خلف الركاب. فقد وقعت قبل ذلك على خطاب يراجعه فيه حول إخراج فتيات الأسرة من مدرسة أم درمان الثانوية. وأصل القصة أن الإمام عبد الرحمن كان يصدر تعاليم صارمة لفتيات الأسرة ألا يذهبن للأسواق ولا يشاركن في المواكب والمظاهرات بالطبع، بل حتى لا يزرن صديقاتهن في المدارس ومن أرادت التواصل اجتماعيا مع زميلاتها فمرحبا بهن زائرات، أما بنات الأسرة فلا يرددن لها زيارة! كانت هذه التعاليم صارمة جداً وبعضهن كن يخرقنها، وتروى طرفة أن الإمام وهو في بعض طريقه وجد منهن ثلة ذاهبة للسوق فسألهن باستنكار: ألم أمنع الذهاب للسوق؟ فقلن له: نعم ولكنا ما اعتقدنا أننا سنلاقي في طريقنا (سيدي)! وضحك الإمام من هذا العذر الأقبح من الذنب! الشاهد، روت لي والدتي الحبيبة سارا الفاضل- رحمها الله- وهي حفيدة الإمام عبد الرحمن، انها خرجت في مظاهرات سنة 1956م للتنديد بالعدوان الثلاثي على مصر، وغضب الإمام عبد الرحمن لما علم بذلك وهم بإخراجها وكل بنات الأسرة من المدرسة، بالرغم من مناصرته لمصر يومها وحرصه على تعليم الفتيات، ولكنه استنكر فكرة خروجهن في مظاهرة. خطاب الصديق الذي اطلعت عليه راجعه في ذلك القرار وقال له لو أخرجناهن من المدرسة فسوف يفوتهن قطار التعليم وتبزهن بنات جيلهن، وهذا يفسر لماذا رجع الإمام عن قراره، ولكنه أنشأ لاحقا مدرسة المهدي الثانوية لتدرس فيها فتيات الأسرة وبنات الأنصار. كان الصديق ذا همة وحماسة وحزم وعزم ، وكذلك لطف كما يذكر من عرفه. خاطبه خاله محمد الخليفة شريف في أوائل الخمسينات قائلا (وصلني كتابك الذي مثلك أمامي بكل ما أعرفه فيك من حزم وظرف ولا أقول زادني إعجابا بك وتقديرا لك لأن هذه صفة لازمتك منذ نعومة أظفارك). شكّل هو وأحمد سليمان ومكي المنا وسبعة أعضاء آخرين لجنة الزعفران، وهي اللجنة المسئولة عن تسيير إضراب طلبة كلية غردون الشهير (نوفمبر 1931 - 31 يناير 1932م)، الإضراب الذي توسط الإمام عبد الرحمن لفضه. كان رئيسا لجمعية فلاحة البساتين في الخمسينات وترأسها بعده السيد محمد صالح شنقيطي. وكان رئيس مجلس أمناء دار المرشدات. ونائب رئيس نادي الفروسية. والحقيقة فإن رصدا دقيقا للمنظمات التي شارك فيها لم يتم بعد، إذ عثرت قبل أيام فقط في مكتبة الحبيب الإمام على ورق يفيد أنه كان عضوا بجمعية محاربة الخفاض الفرعوني التي نشطت في أربعينات القرن العشرين، وكانت تبشر بين الناس لممارسة نوع مخفف أسموه بالسنة، وقد أكدنا أنه ذاته وكل أنواع الخفاض من سنة فرعون، ولكنها العتبة الأولى نحو محاربة الخفاض، الذي سوف يدك بناؤه القميء ويتلاشى عن سمانا بإذن الله في العقود التالية. وكان معه في تلك اللجنة السادة إبراهيم أحمد، ود. علي بدري، ود. التجاني الماحي، ودرديري محمد إسماعيل مع المستر ج .س سكوت والقائمقام مرسي بك الله جابو والدكتور كلارك والمستر أوين. وقد أيد الإمام عبد الرحمن هذا الاتجاه وبالتالي أوقف الختان الفرعوني وسط أسرة المهدي والأنصار خاصة في الجزيرة أبا منذ تلكم الأيام. وكان مناصرا قويا للحريات والديمقراطية في السودان، وهذا ما سوف نثبته في مقالنا القادم بإذن الله.. ولكننا نختم اليوم بكلمات شاعرنا الحبيب العم عابدين، في مدحته الرائعة (حباب صديقنا): حباب صديقنا، البفرج ضيقنا، وارث مهدينا تعال يارفيقنا، نلم تفريقنا، نقوى فريقنا، الإله يهدينا نلازم إبريقنا، وننقذ لغريقنا، نسير فى طريقنا، ونماسك أيدينا صديقنا قمرنا، نجنيبوا ثمرنا، بوجوده عمرنا، فى الناس ما علينا نوهبلوا عمرنا، ونقوم بأمرنا، لسوء ما ضمرنا، داخرنك لينا رفعنا يدانا، رحمة الله ادانا، ومعك هدانا، وبيك يقوينا رب أهدى أعدانا، نلبى ندانا، ونصون مبدانا، ونورك يضوينا بمدحك لذنا، ومن فيضك اخذنا، اصلا ماعجزنا، معاك مسينا يا من بك فزنا، وللخيرات حزنا، ضمان تنقذنا، تب ما نشوف شينا بحبك بحنا، وكسبنا ربحنا، جنودك نحن، العليك رسينا هداك اصلحنا، لولاك كان رحنا، سعاد اصبحنا، وسعاد أمسينا صممنا وهشنا، وثابتين ما دشنا، متنا او عشنا، على ماضينا للموت فرشنا، ولأعدانا درشنا، تزيل موحشنا، ونكون راضينا مولاى درّبنا، ومسكنا دربنا، وعليك قربنا، وأهدى عاصينا ننيلوا اربنا، وحلونا شربنا، عابدين يطربنا، حوله اترصينا نواصل بإذن الله، وليبق ما بيننا الراي العام نشر بتاريخ 29-09-2011