يُعرف علم النفس اللامبالاة بأنها حالة وجدانية تجرد المرء من روح الإرادة بحيث يتصرف بلا إهتمام للنتائج .. والفرد - أو الشعب - اللامبالي، يكون عاجزاً عن حل قضاياه، وكذلك يبدوا ضعيفاً أمام التحديات التي تعترض مسار حياته، ويكون فرداً - أو شعباً - بلاطموح وبلاروح.. وما لم يختلف فيه علماء النفس هو أن لامبالاة الفرد - أو الشعب - محض عرض لمرض ما، ويزول بعلاج المرض ..مشاهد الحرب والموت والدمار تقتل في دواخل الفرد - أو الشعب - كل المشاعر، بحيث يصبح إنساناً - أو شعباً - آليا لا يكترث بما يحدث له ، وكذلك لايكترث إلى ما سيؤول عليه حال المستقبل، إذ ما رآه وعاشه من المآسي ترغم عقله بأن يفكر بنهج ( بأي حال من الأحوال غدنا لن يكون أسوأ من يومنا )، ويظل مكبلاً بهذا القيد السلبي والمسمى - إصطلاحاً - باللامبالاة.. !! ** وبالمناسبة، لم يكن هذا المصطلح شائعاً قبل الحرب الأولى، إذ رأى الجنود في معارك تلك الحرب من الفظائع ما أسموها حينها ب(صدمة القذيفة)..وبعد إنتهاء الحرب العالمية عجز الطب عن دمج السواد الأعظم من الجنود في المجتمع، إذ تجردوا تماما - بسبب أهوال المعارك ومجازرها المختزنة في ذاكرتهم - من خاصية التفاعل الإيجابي مع المجتمع ، وكان الجندي منهم يسير في الطرقات بلا روح، ومنهم من إنزوى بعيداً عن الناس غير آبهاً لما يحدث للناس وما يحدث في الحياة، أي كما السواد الأعظم من الشعب السوداني حالياً .. والإغتراب أيضاً - كما مشاهد الحرب والقتل والدمار - يولد في الفرد اللامبالاة، أي الإحساس بعدم الإنتماء لأوجاع شعبه، وكذلك يولد في الشعب عدم الإنتماء لأوجاع بلده ، علماً بأن الإغتراب المعنى هنا ليس هو البعد عن الأهل والوطن، بل هو (غربة الروح)، أي أن تعيش إحساس الغربة في كل الأمكنة، بما فيها ديارك..أي كما حال السواد الأعظم من أهل المسماة - نصاً وليس روحاً - ببلادنا ..!! ** شعبنا - إلى وقت قريب - كان حيوياً لحد التفاعل الإيجابي مع كل أحداث بلاده وأحداث بلاد الآخرين .. كان معلماً يعلم الشعوب كل أنواع التفاعل الإيجابي، بما فيها صناعة الغضب الإيجابي، أي كما أكتوبر وإبريل..هكذا كان، أي قبل أن يتم إسناد الكثير من أمور الحياة العامة لغير أهلها، حكاماً في السلطة كانوا أو سادة في المعارضة أو أقلاماً في الصحافة أو حناجراً في المنابر ..ولذلك صار حال المواطن اليوم - من وطأة أثقال اللامبلاة - كمن ينتظر الساعة ليلقى مصير الآخرة، أو كمن يحدق في السماء لتمطره حراكاً إيجابياً يحرك مشاعره تجاه الأشياء.. لم يعد في العقل والقلب غير (اللامبالاة) و (أنا مالي) ، وهذا ما يسمى بعدم الإحساس بما حدث ويحدث، وكذلك عدم الإكتراث لما سيحدث..لم تلهنا التكاثر ولكن تجمدت العقول وتبلدت المشاعر بكثرة المقابر التي تحيط بالناس والحياة..مقابر التطرف، مقابر الفساد، مقابر الإنتهازية، مقابر البطش، مقابر الكبت، مقابر الظلم، مقابر العنصرية والجهوية، مقابر تشظي النسيج الإجتماعي وإنشطارالوطن ، و.. بل تتراءى البلاد كلها لأذهان أهلها بأنها مجرد (مقبرة كبرى)، وسيان فيها من يتوسد ثراها و من يمشي مكباً على ثراها، أو هكذا بلغ بالناس - وحياتهم - حد (اللامبالاة)..!! ** و كثيرة هي النماذج والمشاهد التي تعكس بأن مصطلح اللامبالاة صار شعباً في بلادنا كان يسمى في الماضي بشعب أكتوبر وإبريل، ولكن ما حدث لشوارع الشعب بعد قصف مصنع يرموك يصلح بأن يكون (الاوضح حالاً) و (الأفصح بياناً).. إذ لم يحدث شئ لتلك الشوارع ، ولم يتجاوز رد الفعل العام بعض شوارع أبوآدم وبعض أزقة الكلاكلة، عند لحظة الحدث.. لم يحدث شئ ولن يحدث شئ ، وكأن عاصمة - غير الخرطوم - هي التي إخترقتها طائرات إسرائيل..أين المنابر التي ظلت تحشد الحشود لغزة في مواقف كهذه؟، أين الحلاقيم التي ظلت تملأ الفضاء ضجيجاً بالهتاف الكاذب والرياء الفاضح والرجولة المدعاة؟..ليست هناك إجابة غير أنها آثرت الصمت الخجول والإنزواء، لإحساسها بأن الآذان لم تعد صاغية لهتاف الإفك المراد به كنز ذهب السلطة وفضة مزاياها..تبكمت منابرهم لأن أنفس الناس لم تعد مهيأة لغير اللامبالاة حتى ولو تجاوزت إسرائيل حد القصف إلى (حد الغزو) ..فلتسأل السلطة ذاتها : بأي ذنب يتم وأد الشعب في مقبرة اللامبالاة؟.. أليس فيكم رشيد يسأل غير الراشدين : ما قيمة الشعوب حين تعيش في ( غربة الروح) ..؟؟ [email protected]