الصومال، بلد عربي عضو في الجامعة العربية، وإقليم عريق في قدمه، كان يمسك بخطوط الملاحة في المحيط الهندي والبحر الأحمر، أقام علاقات اقتصادية مهمة مع مصر الفرعونية منذ الألف الثانية قبل الميلاد، نسيه العرب بعد الانقلاب الذي أطاح بنظام محمد سياد بري، مما دفع العالم المستعمِر لتسليط أنظاره عليه بسبب موقعه الإستراتيجي على مدخل البحر الأحمر وساحل أفريقيا الشرقي. -الكتاب: مياه قاتلة-داخل عالم قراصنة الصومال الخفي -المؤلف: جاي بهادور -عدد الصفحات: 302 -الناشر: برُفايل بُكس، لندن -الطبعة: الأولى 2011 لم تكترث أجهزة الإعلام المتخصصة بالبلاد ومصيرها إلا عندما بدأت الأخبار تتوارد عن قراصنة البحر مقابل ساحل الصومال، مما ذكر كثيرين بأخبار القرصنة في العصور الوسطى. فقط بضع محطات تلفزة -منها قناة الجزيرة القطرية والأميركية سي إن إن- أرسلت وفودًا صحفية لمتابعة الأمور مباشرة. مؤلف هذا الكتاب جاي بهادور كندي التبعية، صحفي كتب في صحف غربية كبرى منها التايمز والفايننشال تايمز اللندنيتين والنيويورك تايمز الأميركية، إضافة إلى إسهاماته في برامج عن الصومال أعدتها محطات تلفزة غربية عديدة، ولا ننسى ذكر أنه عمل في وزارة الخارجية الأميركية مستشارًا لشؤون القرصنة، مما يؤهله للحصول على معلومات دقيقة ومهمة. هو ربما من الصحفيين القلائل الذين زاروا البلد وكتبوا عن القرصنة أيضًا من منظور المجتنِي/الضحية. أقام في البلاد أشهرًا عديدة واجتمع مع مختلف قادة الصومال (المقسم حاليًا إلى ثلاث دول رئيسة هي أرض البونت في شرقي البلاد والصومال في شماليها وقسم جنوبي تسيطر عليه حركة الشباب، وأقاليم صغيرة أعلنت نفسها مناطق حكم ذاتي). كون المؤلف صحفيا أكسب لغة الكتاب سلاسة مريحة تسمح بمتابعة الموضوع المعقد بسبب كثرة أسماء العلم والمواقع والتغيرات المستمرة في أوضاعه الكتاب إن تعقيدات الوضع الصومالي وتداخل الأقاليم بالأسماء وارتباط هذا كله بالمتغيرات الميدانية والسياسية، تفرض علينا التركيز على النقاط الأساس الواردة فيه والتي نرى أنها ستساعد القارئ في سعيه لمعرفة خلفية نشاط القرصنة هناك، بعيدًا عن المبالغات الصحفية المعروفة التي تركز على الإثارة أكثر من أي أمر آخر. المؤلف قسم كتابه، الثري بالصور والخرائط والجداول، إلى خمسة عشر فصلا يتعامل كل منها مع مادة مختلفة. فهو يبدأ كتابه بفصل عن تاريخ البلاد الحديث مما يسهل على القارئ الاطلاع على أحوال البلاد الحالية. وهو يركز بطبيعة الحال على الأحوال في "بلاد بونت" التي ربط اسمها بأعمال القرصنة. في الوقت نفسه فإنه يتعامل على نحو دقيق مع الأحوال السائدة هناك، سياسيًا وعسكريًا واجتماعيًا واقتصاديًا، باحثًا عن خلفيات الوضع الحالي. والمؤلف لا يكتفي بجمع خبر من هنا وآخر من هناك، بل يقيم أسابيع طويلة متنقلاً في الصومال ومجتمعًا مع قياداتها السياسية والاجتماعية، ومع قادة القراصنة أنفسهم وفي مقدمتهم السيد عبد الله أبشير المعروف باسم بويا خلفية أعمال القرصنة كثيرًا ما ركزت وسائل الإعلام على أعمال القرصنة بحد ذاتها من دون البحث في خلفياتها ومسبباتها. المؤلف لا ينسى هذا الأمر ويذكر القارئ بأن أحد أهم أسباب انتشار أعمال القرصنة المنطلقة من الصومال، على قلتها، هو نهب سفن صيد الدول المصنعة المجهزة بأحدث الآلات، ثروات البلاد السمكية في داخل مياه البلاد الإقليمية، مما أثر كثيرًا في حياة الصوماليين الذين تعتمد حيواتهم على الصيد والثروة السمكية والمرجان. ويبين المؤلف أن هذا النهب المنظم لثروات البلاد الرئيسة هو ما دفع البعض للجوء إلى القرصنة لتعويض خسائرهم المادية. المؤلف لا يبرر هذا لكنه يضعه أمام أعين القراء ويذكر به كلما اقتضى الأمر. من ناحية أخرى، ينقل المؤلف شكوى الصوماليين من قيام الدول النووية بردم نفاياتها في سواحل البلاد. ورغم نفي حكومات الدول المعنية ذلك إلا أن المؤلف يؤكد الأمر اعتمادًا على تقارير الأممالمتحدة التي بينت أن التسونامي الذي ضرب المنطقة جلب إلى سواحل البلاد أطنانا من المواد الكيماوية والنووية التي ألقي بها في أعماق البحر قبالة شواطئ الصومال. وقد أكد تقرير المنظمة الدولية أن سكان شواطئ الصومال يعانون مقادير عالية من الأمراض المرتبطة بالإشعاعات النووية والكيماويات الخطرة على حياة الإنسان والطبيعة. حقائق أعمال القرصنة وأساطيرها الوصول إلى حقيقة الوضع، أو لنقل: محاولة عمل ذلك، دفعت المؤلف إلى تلخيص حقائق الأمور عبر نقاط رئيسة أطلق عليها صفة "الأساطير". الأسطورة الأولى تقول: مياه شواطئ الصومال تعج بالقراصنة. الكتاب ينفي هذا نفيًا قاطعًا، ويؤكد أن أعمال القرصنة قليلة للغاية، ويقدم الأرقام الآتية: في عام 2008 مرت نحو 24000 سفينة في خليج عدن، تعرضت فقط 42 منها للقرصنة الناجحة، أي بمقدار (0.17%). الأسطورة الثانية تقول: إن القراصنة أدوات في أيدي القوى الصومالية الإسلامية. المؤلف تابع الموضوع مع "القراصنة" ووصل إلى نتيجة أن هذه أيضًا من الأساطير غير الصحيحة. الأسطورة الثالثة تقول: ثمة كارتيل دولي إجرامي يقف خلف أعمال القرصنة. المؤلف ينفي هذا اعتمادًا على معلومات حصل عليها من تقصيه المباشر مع الشركات الأمنية وغيرها من الهيئات ذات العلاقة الأسطورة الرابعة التي يكذبها المؤلف تقول: لدى القراصنة شبكة جمع معلومات معقدة. فرغم ادعاء العديد من الأوساط الغربية هذا الأمر إلا أنه ينفي ذلك، ويذكر القارئ بأن المعلومات عن السفن وتحركاتها وحمولاتها متوافرة على الإنترنت، ويمكن لأي كان الحصول عليها مقابل اشتراك سنوي بسيط. وينقل قول البريطاني روجر مدلتن، وهو أحد أشهر المتخصصين بشؤون القرن الإفريقي: المرء ليس في حاجة إلى أجهزة متابعة حديثة كي يعرف موقع سفينة ما في مياه المنطقة ويخطفها. كل ما يحتاج المرء إليه المكوث نصف ساعة في المياه مقابل الصومال وسيرى قوافل السفن تمرح في المنطقة. الأسطورة الخامسة التي ينفيها المؤلف تدعي أن عائدات أعمال القرصنة تصب في كينيا لابتياع عقارات، حيث شهدت منطقة إيستلي في العاصمة نيروبي نهضة عمرانية كبيرة. السكان يدعون أنها من عائدات أعمال القرصنة الصومالية والمؤلف يعيد هذه النهضة إلى سياسة الحكومة الكينية في تشجيع الاستثمار. الحلول المؤلف شرح في صفحات كتابه الأوضاع السائدة في الإقليم وتداخلها بالأوضاع والمطامع الدولية، وأوضح أن المشكلة ليست أمنية في المقام الأول، على أهمية الأمر. فقد تبين أنه رغم تعاظم وجود الأساطيل الحربية الغربية وغير الغربية في مياه الصومال عام 2009 فإن أعمال القرصنة تصاعدت بدلاً من العكس. مع ذلك فهو يطرح عدة نقاط يرى أنها كفيلة بالسيطرة على أعمال القرصنة الصومالية، وهي: - تأسيس قوة شرطة فعالة في أرض البونت. - تمويل توسيع شبكة السجون في أرض البونت. - تقوية العلاقات الاستخبارية بين حكومة أرض البونت والقوات البحرية في المنطقة. - القضاء على عمليات الصيد غير الشرعية. - تحسين الأداء الأمني (السلبي) على متن السفن. المؤلف لا يرى أن تطبيق هذه النقاط، وغيرها، سيعني مصاريف إضافية للدول ذات العلاقة وإنما إعادة صرفها. فبدلاً من إنفاق ملايين الدولارات على السفن الحربية المرسلة إلى المنطقة، وجب تشغيل تلك الأموال في مشاريع بناءة تخدم الاقتصاد الصومالي وتساعده في التغلب على جذور المشكلة. المؤلف واثق من أن تطبيق سياسات حكيمة بديلة لن يقضي على مشكلة القرصنة في القرن الإفريقي، لكنه سيقدم أنموذجًا جيدًا للأقاليم الصغيرة التي تدعمها وتفتح مجال عمل ونشاط أمام الشبيبة الصومالية المعطلة عن العمل. قد لا يكون الكاتب تطرق إلى كافة مشاكل البلاد ولم يعالج كل خلفيات أزماتها والأدوار التي مارستها القوى الكبرى هناك وتدخلها في شؤونها الداخلية، عدا عن غزوها، إلا أنه قدم مؤلفًا مهمًا عن الأوضاع السائدة في الصومال وخلفية انتشار أعمال القرصنة فيه، من خلال وجوده فيه واللقاء مع قادته والبحث في مشكلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والإثنية والسياسية.