يكتسي موضوع مكافحة الفقر راهنية كبرى في عالم اليوم بالنظر إلى ارتفاع حدة النبرة التضامنية من جهة والعمل الدؤوب الذي تقوم به المنظمات غير الحكومية في توعية الرأي العام الدولي حول قضايا الفقر من جهة أخرى. وكانت النتيجة أن تصدرت قضية مكافحة الفقر أجندة الدول المتقدمة والهيئات الدولية، وعلى رأسها الأممالمتحدة التي جعلت من محاربته والحد منه، أحد الأهداف الإنمائية للألفية الثالثة. ولمصاحبة هذا الجهد الدولي كان لابد من جهد موازي على الصعيد الأكاديمي والبحثي لتقييم تجربة محاربة الفقر دولياً وتشخيص الأخطاء ووضع الحلول المناسبة، وهو ما يسعى الكتاب الذي نعرضه هنا، "ضد كل الصعوبات... السياسيون والمؤسسات والصراع ضد الفقر"، لمؤلفيه الثلاثة "جيمس مانور" و"نجوجونا نجيتي" و"ماكوس أندري ميلو"، إلى تسليط الضوء عليه من خلال دراستهم سبل مكافحة الفقر والتخفيف من حدته في المجتمعات التي اكتوت طويلا بناره. والكتاب دراسة ميدانية همت ثلاث دول مختلفة تعكس اهتمام وخلفية كل مؤلف على حدة، حيث حاول كل كاتب تناول تجارب دولية مختلفة في مصارعة الفقر والسياسات التي اتبعها القادة للتعامل معه، سواء في أفريقيا حيث تبرز تجربة أوغندا، أو في آسيا مع تجربة أخرى عرفتها ولاية "بارديش" الهندية، ثم أخيراً النموذج البرازيلي. ومما يلفت النظر في الكتاب محاولته التصدي لبعض المفاهيم والرؤى المتشائمة التي تحكم على جهود مكافحة الفقر بالفشل، فيستعرض أدبيات مجموعة من المنظمات الأهلية والوكالات الدولية العاملة في مجال مكافحة الفقر، لتعقب المشاكل التقليدية التي غالباً ما يشار إليها باعتبارها مكبلةً لمساعي مكافحة الفقر. ومن هذه المشاكل معضلة الشفافية وسوء إدارة الموارد في الدول والحكومات الفقيرة؛ إذ غالباً ما تعجز المنظمات المانحة والدول المساعدة عن تعقب الأموال والاستثمارات التي توفرها للمجتمعات الفقيرة بسبب فساد النخب السياسية والاقتصادية. ورغم الانفتاح السياسي الذي شهدته بعض الدول النامية، فقد ظلت المساعدات بعيدة عن أهدافها الحقيقية، وظل الفساد عائقاً حقيقاً يمنع استفادة الأشد فقراً من المنح الدولية. لكن الصورة القاتمة ليست بالضرورة تعبيراً صحيحاً عن الواقع، فمن خلال الدراسة الميدانية التي قام بها الباحثون تبين أن السياسة تلعب دوراً محورياً في مكافحة الفقر، وأنه بدلا من التركيز المفرط على الجوانب التقنية والسياسات الاقتصادية للدول النامية، يتعين التعامل مع كل حالة على حدة واحترام السياق السياسي للدول. وفي هذا الإطار تبرز تجربة أوغندا تحت حكم الرئيس "موسيفيني"؛ فخلافاً للصورة النمطية عن واقع الفساد المستشري في إفريقيا، استطاع موسيفيني أن يحقق إنجازات مهمة في مكافحة الفقر عبر سياسات الدعم المباشر للمزارعين ومساعدتهم على تسويق منتجاتهم والحد من الوسطاء. وقد قام بذلك من خلال تبسيط الإجراءات الإدارية بالنسبة للمزارعين وفرض رقابة صارمة على مؤسسات الدولة ومحاسبتها، فكانت النتيجة إيجابية حسب الكتاب الذي أثنى على التجربة الأوغندية في محاربة الفقر. وهناك تجربة ولاية "بارديش" الهندية التي قادها الوزير الأول، أو حاكم الولاية المنتخب، "ديفيجاي سينج"، بالاعتماد على سياسية اللامركزية في التعامل مع الفقراء، وهي سياسة تفرض نفسها في بلد كبير مثل الهند يصعب حكمه من المركز البعيد بأسلوب عمودي قد لا يصل إلى الفئات المستهدفة. لذا فقد اختارت الولاية أسلوب القرب والنزول إلى القرى البعيدة والنائية وتقديم القروض الصغيرة لإطلاق مشروعات تدر دخلا ولو بسيطاً على المستفيدين. وهي تجربة لاقت استحساناً دولياً وحققت نتائج إيجابية على الأرض. وأخيراً ينظر الكتاب إلى تجربة البرازيل الرائدة من خلال السياسات التي اتبعها الرئيس الأسبق "كاردوس" (1995 -2003)، والقائمة على تحفيز الطلب لدى الفئات الفقيرة وخلق سوق لمنتجاتهم لتحرك عجلة الاقتصاد، لكن مع وضعهم في صلب تلك العجلة بعدما كانوا عرضة للتهميش، إذ غالباً ما تهتم السياسات العامة بتشجيع الاستثمارات الكبرى وفتح الأسواق المحلية في إطار العولمة الجارفة للسلع التي تنتجها الشركات الدولية الكبرى ما يقضي على فرص الفقراء ويزيد من مصاعبهم، فكان لابد للقيادات الوطنية الحريصة فعلا على محاربة الفقر من التركيز على فئة المهمشين وإشراكهم في دائرة الإنتاج. والخلاصة النهائية التي يخرج بها الكتاب هي محورية السياسات العامة، وضرورة الربط بين مصالح السياسيين المتمثلة في الحفاظ على السلطة، وبين مصلحة الفقراء في التحسين من ظروفهم المعيشية، فكلما نجح السياسي في التخفيف من معاناة الفقراء ضمن أصواتهم واستطاع الاستمرار في المنصب. وهي المعادلة التي يجب الحفاظ عليها لإنجاح مساعي محاربة الفقر باعتبارها مصلحة سياسية قبل أن تكون تعاطفاً مجانياً مع الفقراء. أق