إن وسائل الإعلام منذ أن عرفها الإنسان لأول مرة إلى يومنا هذا هي أداة تحكم وسيطرة ونفوذ بيد من يمتلكها، سواء كان المالك فرداً أو جماعة أو دولة بجانب كونها وسيلة لتبادل الأخبار ونقل المعارف ونشر العلوم ولطبيعة الإعلام الفعالة في التأثير لجأت إليه الدول المتطلعة للنفوذ السياسي الكبير والشركات المتعددة الجنسيات الطامعة في الربح المادي الضخم والجماعات الدينية والاجتماعية الراغبة في الانتشار والتبشير بفكرتها على نطاق واسع والمناضلون نصرة لقضاياهم وبذات القدر عمدت إلى توظيفه في خدمة البغي والفسوق والعدوان قوى الشر وأجنحة المكر في العالم . ومع الثورة التكنو اتصالية الحديثة تعرضت قيم المجتمعات والدول إلى أنواع متعددة من الضغوط، والأخطار الفكرية؛ المؤثرة على استقلالها وتطلعاتها ومن هذه التحديات تحدي ضمان الأمن الفكري للمجتمع باعتباره مفهوماً رئيساً في الحياة الإنسانية وحفظها من عادات التغيير الضار والتحول السالب ليطالب الإعلام في فضائنا الإسلامي بالمساهمة ضمن مساهمات أخرى في الحفاظ على الأمن الفكري في ربعنا الإسلامي بل وتقديم الرؤى والأفكار للمجتمعات الأخرى طلباً لهدايتها وعرض نموذج الحياة المتأثرة بالرؤية الإسلامية نموذجاً كريماً للعالم الذي تمتحن فيه الآن قيم الأسرة وأشكالها وصورها . وضمن السياق السابق أوضح الأستاذ وليد الطيب عبد القادر في الورقة التي قدمها بالملتقى الدعوى التاسع بعنوان ( الإعلام والأمن الفكري ) تتأسس العلاقة بين الإعلام والأمن الفكري من كون أن الإعلام أصبح أحد المصادر المهمة والمؤثرة في توفير المعلومة وتوصيلها، وإن عملية توصيل المعلومات أو وصف الأحداث أو اتجاهات تحليل الأخبار وتقديم آراء الخبراء وشهود العيان تؤثر في العقل المتلقي وبالضرورة في إتجاهات تفكيره، وذلك لطبيعة الإعلام المنفتحة والقابلة لتنوع سبل حكاية الإخبار فإن نقل خبر عن واقعة ما حدثت في الحياة يمكن توظيفه لخدمة جهة معينة من خلال تحليله بما يتناسب وتوجهات تلك الجهة أو بإضافة أحداث أو خلفيات معلوماتية أوشخصيات شاهدة أو محللة للخبر أو إظهاره في توقيت معين أو إظهاره مع خبر أو في سياق مجموعة أخبار لفرض نتيجة تحليلية لا شعورية على المتلقي كما يوظف الإعلام أيضا بتضخيم بعض الأخبار ووجهات النظر والشخصيات وذلك لتحقيق عدة مآرب من وراء هذا التضخيم، وهذا هو الشائع الآن في وسائل الإعلام في العالم . يقول صاحب كتاب (المتلاعبون بالعقول) "يقوم مديرو الإعلام في أمريكا بوضع أسس تداول الصور والمعلومات ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة علي تلك الصور والمعلومات التي تحدد معتقداتنا ومواقفنا بل وتحدد سلوكنا في النهاية" و يحتمل أن تكون الصورة التي رسمها الإعلام صالحة أو ضارة. ويشرح ذلك في حالة أن تكون صورة مفعمة بالإيجابية وبشائر الخير ومطابقة لنجاحات الواقع أو مشجعة للمجتمع على الصعود قُدما نحو المثال أو متناولة إلى مناطق الضعف في المجتمع بالنقد البناء والتقويم الرشيد؛ فإن ذلك الإعلام يكون حامياً للأفكار والقيم وللمجتمعات والأوطان، ". وعندما يعمد مديرو أجهزة الإعلام إلى طرح أفكار ومعلومات لا تتطابق مع حقائق الوجود الإجتماعي فإنهم يتحولون إلى (سائسي عقول) . و يقول القس كأرلوس أيه فال "أصبحت وسائل الإعلام في المجتمعات الحديثة مصدراً للمعلومات والتدريب على القيم لهذا يقول بعض القساوسة "علينا أن نقرأ الكتاب المقدس وصحيفة معا. ولكن أي صحيفة؟ إنها الصحف التي تقول الحقيقة، وتجلب المعلومات الصحيحة عما يحدث في العالم ومن ثم فيمكن القول إن العلاقة بينهما هي علاقة شرطية بين الإعلام الصادق المسؤول والفكر الصحيح الناضج أو بين الإعلام والأمن الفكري إجمالاً. وقد ينتهي الإعلام غير المهني إلى التشغيب على العلماء والفتوى الشرعية تحت شعارات صحيحة في أصلها ، مثل إستخدام قاعدة الرأي والرأي الآخر، المعروفة في المجالات السياسية والإجتماعية العامة وإخضاع الأحكام الشرعية القطعية وروداً ودلالةً لمثل هذه القاعدة، فتصبح الأحكام الشرعية "وجهة نظر" لا أكثر ، يتساوي أمامها الجميع . ومن أخطاء الإعلام في هذا المحور تناول أخبار العلماء والدعاة بذات الطريقة التي يتناول بها أخبار نجوم الفن والرياضة، مما يهدد مكانة القدوة في المجتمع وفي المقابل، على العلماء مراعاة التحولات الضخمة التي حدثت في وسائل التسجيل ونقل المعلومات وخاصة فيما يتعلق بالفتوى، "فالفتوى من أعظم الأمور الشرعية وأخطرها، حيث يجتمع فيها أمران جليلان هما: الإجتهاد، وتبليغ الأحكام الشرعية للأمة الإسلامية التي يفترض بها تحقيق الخلافة في الأرض وإعمارها، ومتى شذت الفتوى عن إطارها الشرعي وإنسلخت من ضوابطها صارت خطرا يهدد أمن المجتمع وإستقراره، كما يهدد الأمن الفكري للأمم المجاورة؛ لأنها ترسم صورة مشوهة عن الإسلام أو ما يعرف بالإسلام فوبيا. والفتاوى الشاذة وإن كانت قليلة مقارنة بالفتاوي المنضبطة، فإن ضررها جسيم، وجرحها عظيم في جسد الأمة؛ ذلك أن الأمة تتلقاها بنوع من الفضول والرغبة في معرفة هوية المفتي وأسباب فتواه، وردود العلماء عليها، فتتناولها وسائل الإعلام كصيد ثمين تزيد به نسب المشاهدة، لتصبح الفتوى سلعة رائجة في سوق الفضائيات، دون إدراك للوباء الذي تصًدره للأمة وتنشره فيها كإنتشار النار في الهشيم . ومع ظهور الإعلام الجديد والشبكات الإجتماعية فقدت الدولة السيطرة على مقود التوجيه، وأصبح المواطن هو المسؤول مسؤولية مباشرة عن صناعة إعلامه ومراقبته وتوجيهه، وهنا تأتي أهمية بناء منظومة فكرية صحيحة للناشطين في مجال الإعلام من الهواة والمحترفين . ومن معالم هذه المنظومة الفكرية رد الاعتبار لإنسانية الإنسان وتحريره من التحيز المادي وهو الشائع الآن في الإعلام التحيز للمادة على حساب الإنسان، روى د. عبد الوهاب المسيري في كتابه "العالم من منظور غربي" أن إمرأة غربية سافرت مع زوجها إلى أثيوبيا في رحلة سياحية لإكتشاف الجمال والحياة الطبيعية في أفريقيا، ولسوء الحظ هاجمهما أسد وإستطاع الإمساك بالزوج وحاولت الزوجة "المخلصة" تخليصه من فك الأسد ولكنها عجزت، وسرعان ما هداها "التحيز المادي" إلى الإستفادة من الحادثة مادياً، فأخرجت الكاميرا والتقطت صورا مباشرة وحية للأسد وهو يلتهم زوجها، ولم تكتف بها للذكرى كما يفعل الكثيرون بل أرسلتها للنشر في صحيفة بمقابل مادي ثم حصلت بسببها على جائزة في التصوير ... فالزوجة "المتحيزة" جعلت من زوجها المسكين منفعة مادية محضة في مماته كما كان عندها في حياته،ونحن الإعلاميين العرب والمسلمين .. كلنا هذه المرأة . ولابد من الوعي بالذات الحضارية وعلى الإعلام الانتباه إلى أن هذه الأمة -الدولة- لها أصولها الحضارية المتميزة وإنتماؤها الخاص للمكان والزمان، وهذا يقتضي الحذر من التحيز للغرب، فقد لاحظ الباحث من خلال تجربته الخاصة، أننا نقع فريسة سهلة للغربيين في صياغتهم الملغومة للأخبار خاصة، فما يزال السياسي الأمريكي هو البطل الإعلامي أيضاً، فكل الأخبار ذات الصلة بأمريكا، تجدها تبدأ مثلاً: (حذر الرئيس بوش الأبن السودان من كذا وكذا، وقد إستهجن السودان تهديد الرئيس الأمريكي)، وماذا يضير لو بدأ الخبر : إستهجن السودان تحذير الرئيس الأمريكي؟، فمركزية الشخصية الغربية عموماً في الخبر هي قرينة للمركزية الغربية في الموضوع الإعلامي، حيث تجدنا نحتفى ب"يوم الضحك" و "عيد الحب" في إعلامنا لا لشئ إلا لأن الغربيين يحتفون بمثل هذه الإحتفالات . وهذا ما إنتبهت إليه الصين، حيث " منعت الصين الصحف والناشرين وأصحاب المواقع الإلكترونية من إستخدام الكلمات الأجنبية والانجليزية منها على وجه الخصوص. وقالت دار النشر الحكومية الصينية إن مثل هذه الكلمات تلطخ نقاوة الللغة الصينية. وأضافت إن اللغة الصينية القياسية يجب أن تكون هي المعيار، وأن على الصحافة أن تتجنب المختصرات الأجنبية، فضلاً عن الإنجليزية الصينية ( Chinglish) التي هي مزيج من اللغتين الانجليزية والصينية. ونقلت صحيفة الشعب الصينية اليومية عن هذا الجهاز الحكومي القول إن مثل هذا الاستخدام قد "أضر بشدة" بنقاوة اللغة الصينية وانتج "تأثيرات إجتماعية سلبية" في البيئة الثقافية" . أما الإحساس بالوطن فنجد أن التغطية الإعلامية التلفزيونية والإذاعية والصُحُفية الإسرائيلية تنحاز في أوقات الحروب إلى آراء الجيش والحكومة الإسرائيليين كما يصفها الكاتب الإسرائيلي عساف غافرون ونحن أولى بذلك منهم . وللتأكيد على ضرورة الإلتزام بالقواعد المثلى للإعلام هناك ضرورة ملحة على إشاعة ثقافة (التزام العلمية) و(المنهجيات الصحيحة) في التعامل مع الأشياء والأفكار ولهذا على كل راغب في العمل الإعلامي أن يتعرف على قواعد العمل الإعلامي الصحيح، وقد اعتبرت وكالة رويترز للأنباء قيم (الدقة والحياد ) من القيم العليا في المؤسسة بل عملت على إصدار "دليل أخلاقيات المهنة للصحفيين" توعية للصحفيين من المنزلقات الأخلاقية والمهنية الضارة بهم وبمجتمعاتهم، وينصح الأمريكي المسلم عبد الله شيلفر الصحفيين " وأود من الصحافيين العرب أن يتعلموا من دقة العلماء البخاري ومسلم وكلاهما لم يعتمد في توثيق مروياتهم فقط على مصدر أو مصدرين لكن أيضا عملا على تقييم الرواة و إلى أي مدى يمكنهم الوثوق بها، ورفض أولئك الذين لم تكن مروياتهم جديرة بالثقة، وهو أمر لم تصل إليه حتى وسائل الاعلام الغربية على الرغم من التقدم الذي أحرزته و على المراسل العربي أن يدرك أن المصداقية أكثر أهمية بكثير من حشد المعلومات لتتناسب مع طرف أو الأطراف التي يتعاطف الصحافي أو المحرر" . ولعل حيوية أي نظام إعلامي تتوقف على مدى الثقة به، ويظهر هذا في معايشة الحراك الإجتماعي، والتعرف على احتياجات الناس والإستجابة لرغباتهم في الخير والإستقامة والإنسجام مع فطرتهم الطاهرة، والتعبير عما يجول في خواطرهم ونفوسهم بصدق وأمانة، وليس تزلفا وإبتزازاً ونفاقاً من أجل التجارة المتربحة. لو فقد المجتمع الثقة في الإعلام، فإنه سينحاز إلى رؤية أحادية ينظر من خلالها للواقع والقضايا المثارة، مما يعزز من إنقسام المجتمع على نفسه؛ وبدل من أن تكون وسائل الإعلام جسرًا للتواصل والحوار والنقاش، ستكون منصات للتنابز، وتبادل الإتهامات وبإيجاز يمكن أن نقول إن من الضروري أن نعمل على أن يحتفظ المواطن بثقته في إعلامه، وما يقدمه له، ويطرحه عليه؛ وهذا لن يكون إلا إذا وضع القائمون على الإعلام مصلحة المواطن في إعتبارهم وعلى رأس أولوياتهم؛ دون الانحياز إلى سلطة حاكمة، أو رأس مال جشع، أو تيار فكري بعينه يوجه الحقائق وفق رؤيته الذاتية حتى لو كانت تصادم مبادئ وأفكار الغالبية العظمى من الجماهير . فاذا للإعلام دور مهم في تعزيز الأمن الفكري وتأكيد القيم وتعزيز المبادئ الصحيحة بمثل قدرته على إلحاق الأذى بهذه المعاني ذاتها ولهذا لابد من مراعاة مجموعة من القيم المهنية التي تضمن وحدة الجماعة الوطنية في البلاد والإبتعاد عن إثارة الفتنة الدينية والعرقية بين أبناء الوطن، وعليه أن يعمد إلى تركيز الإيجابية والأمل في نفوس المواطنين والإبتعاد عن تنميط الجماهير وإخضاعها لقيم الإستهلال الترفي ومحاولات تسليع الإنسان و"حوسبته". ع و