بقلم الأستاذ/ محمد أزرق سعيد تطفو الى السطح من وقت لاخر قضية إعادة كتابة تاريخ السودان خاصة في أوقات الازمات والتحولات السياسية الحادة أو التنظير الاكاديمى أو عندما تطرح قضية الهوية على بساط البحث الاكاديمى والتعاطى السياسى مع قضايا السودان وتعقيداتها المختلفة . وتثير قضية اعادة كتابة او قراءة تاريخ السودان قضية اخرى اكثر اهميه تتصل بصدقية و موثوقية المصادر التى سيتم الاعتماد عليها فى انفاذ هذا المشروع الذى ظل يراوح مكانه ومنذ وقت بعيد ولأسباب ظلت مستبطنه عن السواد الأغلب من اهل السودان . ورغم ان العديد من المؤرخين والمهتمين واهل السياسة دمغوا عدداًَ من المصادر التى اعتمد عليها المؤرخون فى كتابة تاريخ السودان باعتبارها مصادر انتجتها وخطتها ايادى الاستعمار والموالين له الا ان هناك مصادر اخرى يمكن الاعتماد عليها فى محاولة اعادة كتابة تاريخ السودان أوعلى الاقل اعادة قراءته لربط واقع السودان الحالى والتحولات التى جرت به فى الحقب المختلفة بمايجرى بين ايدينا اليوم . إن احد المصادر المهمة التى قد تكشف جوانب هامة من تاريخ هذه البلاد وانسانه هو الارشيف العثمانى الذى يحتضن وثائق الحكم التركى او الدولة العثمانية للمنطقة العربية وبعضاً من اجزاء القارة الافريقية وبينها السودان الذى اقام فيه الحكم العثمانى سنجقاُ عثمانياً فى قسم من اراضى السودان الحالية ثم احالة بعد مدة قصيرة الى ماعرف باسم( أيالة الحبش ) فى العام 1555م واستكمل الحكم العثمانى للسودان بفتح محمد على باشا في العام 1821م واستمر حتى قيام الدولة المهدية فى العام 1885م . لقد ابرز البروفسير يوسف صاريناى المدير العام السابق لأرشيف الدولة فى تركيا فى دراسة قيمة له اهمية الارشيف العثمانى كمصدر من مصادر تاريخ المنطقة العربية وشمال افريقيا والقرن الافريقى متناولاً الجهود التى تبذلها الجهات المختصة فى تركيا حالياً لتيسير حصول الباحثين على مصادر تاريخ هذه المنطقة وذلك بنقل وثائق الارشيف العثمانى الى الحاسوب ونشرها على الانترنت لتمكين الباحثين الذين يقصدون هذا الارشيف من الوصول اليه من اقصر الطرق وايسرها وذلك على اعتبار أن وثائق الارشيف هى الافضل فى عكس الحقائق التاريخية بموضوعية بالمقارنه مع مصادر التاريخ الاخرى . وتعتبر الجمهورية التركية حالياً من بين الدول القليلة التى تمتلك اليوم اغنى خزينة للوثائق من حيث الحجم والمحتوى وذلك بفضل الارث التاريخى الثرى الذى تم الحفاظ عليه من عهد الدولة العثمانية التى اإحتضنت حضارة الشعوب والاعراق والثقافات واللغات المختلفة فى الشرق الاوسط والادنى ودول البلقان والمتوسط وشمال افريقيا والعالم العربى . ويمثل الارشيف العثمانى فى استانبول اكبر مستودع لتاريخ وحضارة شعوب هذه المناطق ويضم مالايقل عن مائة وخمسة وثلاثين مليون وثيقة (135) تم تصنيفها ويجرى اليوم تقديمها للباحثين والدارسين فى داخل تركيا ومن الخارج - كماتبذل الجهود لتحديد مظان المادة الارشيفية العثمانية الموجودة فى ارشيفات العالم ومحاولة الحصول على صور منها لاثراء الموجود فى تركيا وعلى اسس علمية وتقنية حديثة . ويتكون الارشيف العثمانى الموجود فى الجهاز المركزى فى استانبول من المكاتبات الرسمية للدولة العثمانية والمادة الارشيفية التى خلفتها الدوائر والإدارات المختلفة فى الدول التى خضعت للحكم التركى وتضم دفاتر المهمة التى تحتوى صور المكاتبات التى يرسلها السلاطين الى الولاة والأمراء والقضاة وحراس القلاع وغيرهم من الاداريين فى شكل فرمانات واحكام ومراسيم بجانب دفاتر الطابو والتحرير او الدفتر الحاقانى الذى تسجل فيه عقارات واراضى المناطق المفتوحه اضافة الى دفاتر الرسائل المهايونية التى تضم صوراً لمراسلات السلاطين العثمانيين الى رؤساء الدول الاخرى وامراء مكةالمكرمة وغيرهم ويضم الارشيف العثمانى كذلك السجلات الشرعية التى تضم الاحكام الشرعية والقرارات الصادرة عن القضاء فى المحاكم المحلية فى كافة انحاء وولايات الدولة العثمانية اضافة الى دفاتر قيود النياشين والرتب واوامر التعيين والترقية لموظفى الدولة والوقفيات التى تضم شروط الاف الاوقاف التى اقامها السلاطين وامهات السلاطين والصدور العظام وغيرهم من رجالات الدولة والمواطنين . يضاف الى هذا الارشيف مايحتويه من نصوص الفرمانات الصادرة باسم السلطان والخطوط ( الهيمايونية) التى تحتوى على ملاحظات وتعليقات اوتوجيهات السلطان بخط يده على الوثائق التى تقدم اليه بجانب دفاتر الإرادات التى تصدر من طرف السلطان أمراً بالتنفيذ او موافقة عليه او العكس وذلك على هامش العروض التى كان يقدمها له الصدر الاعظم فى موضوعات مختلفة . ومن الوثائق المهمة التى يضمها الارشيف العثمانى نصوص المعاهدات والاتفاقيات المعقودة بين الدولة العثمانية والدول الاخرى اضافة الى الخرائط والمخططات والكروكيات والصور الخاصة بمختلف البلدان والمناطق الممتدة داخل اراضى الدولة العثمانية . وتمثل هذه الدفاتر والنصوص والاوراق وغيرها من ملايين الوثائق الموجودة فى اقسام الارشيف العثمانى كنوزاً يمكن الاستناد عليها فى تسليط الضوء على تاريخ العديد من الدول فى قارات اسيا واوربا وافريقيا شغلتها اراضى الدولة العثمانية وبينها السودان. ويأتى فى اطار جهود التعريف بمصادر تاريخ الحكم العثمانى للسودان الكتاب الذى اصدره مركز الابحاث للتاريخ والفنون والثقافة الاسلامية التابع لمنظمة التعاون الاسلامى فى العام 2007 م تحت عنوان( السودان فى العهد العثماني)من خلال وثائق الارشيف العثماني بجانب الندوة الدولية (حول السودان فى العهد العثماني) التى نظمتها دار الوثائق القومية بالتعاون مع مركز الابحاث للتاريخ والفنون والثقافة الاسلامية فى الخرطوم في سبتمبر 2012م والتى تم خلالها استعراض العديد من الاوراق العلمية وتطور مراحل الحكم العثماني فى السودان الاثار الناجمة عنه من خلال الوثائق والآثار ويتصل بهذه الجهود علاقات التعاون القائمة ودار الوثائق القومية والإدارة العامة لدور الوثائق التركية والذى يتم فى إطاره الحصول على صور لوثائق السودان الموجودة فى الإرشيف العثمانى بإستانبول لسد الثغرات التوثيقية الخاصة بفترة الحكم التركى للبلاد . وبذلك يصبح الارشيف العثماني من المصادر والمراجع التاريخية المهمة التى يجب العودة اليها لدراسة وكتابة تاريخ السودان خاصة وان جزاءا يسيرا منه قد سير قدره حتى الان.