بقلم : محمد أزرق سعيد الخرطوم 16/4/2014م أسدل أستاذ التاريخ والسفير د. حسن عابدين الستار على سلسلة مقالاته القيمة والهادفة حول ( تاريخ كتابة تاريخ السودان الحديث) والتي نشرتها صحيفتا (الخرطوم والراي العام) مؤخراً بإشارة نابهة وشفيفة حول ضرورة وأهمية الروايات الشفهية والحاجة الى الاهتمام بها كمصدر من مصادر كتابة تاريخ السودان باعتبار أن التاريخ الشفوي وغير المدون يمثل وعاءً من أوعية التاريخ غير المكتوب للشعوب والمجتمعات البشرية خاصة في عصرنا الحاضر الذي أفردت فيه مؤسسات البحث العلمي ومراكز تدوين وتوثيق التراث الانساني حيزاً مقدراً من الاهتمام والرعاية إلى هذا الجانب من مصادر التاريخ البشري خاصة في البيئات التي لم تحظ بقدر من التدوين لنماذج حياتها ومراحل تطورها عبر العصور. ويعتبر التاريخ الشفوي من الوثائق المهمة التي لا تقل أهمية عن الوثائق المكتوبة لأنها تحفظ جوانب من التاريخ وسيرة الشعوب والمجتمعات الانسانية ويساعد الوقوف عليه الحصول على رصيد معرفي وعلمي بتاريخ البيئات الانسانية التي لم تدون مسيرتها في الحقب المختلفة ، الأمر الذي يجعل من ضرورة تدوين التاريخ الشفوي واستخدامه في كتابة تاريخ المجتمعات البشرية وعلى أسس علمية مسألة في غاية الأهمية خاصة في العصر الحاضر الذي بدت تأثيرات ثقافات العولمة وانعكاساتها تؤثر على الذاكرة الجمعية للشعوب وتشكل هاجساً للباحثين وذوي الاهتمام بالتراث الشفوي للكيانات الاجتماعية المختلفة في عالم اليوم. وتنبثق أهمية التراث الشفوي في علاقته بتاريخ الشعوب من حقيقة أن تراث هذه الشعوب وبينها السودان لا يزال يحتضن في طياته الكثير من الحقائق والمعلومات والقصص والروايات التي يمكن من خلال الاطلاع عليها الوقوف على حقائق ووقائع ومعلومات مهمة تكتنزها صدور الرواة وشهود العيان لا يمكن العثور عليها في التاريخ المدون والمكتوب وذلك لارتباط كل معلومة أو حقيقة يتم العثور عليها في تراث المجتمعات البشرية بأصول ووقائع وحقائق ذات صلة بتاريخ الانسان عبر مسيرته الطويلة رغم سيطرة النصوص المكتوبة على عقول العلماء والباحثين على اعتقاد أن علم التاريخ الشفوي علم تتنازعه مشارب عديدة من علوم التاريخ والاجتماع والأنثروبولوجي والأدب واللغة وغيرها من العلوم الانسانية. وينبني التراث الشفوي على مجموعة من التقاليد والاساطير والوقائع التاريخية والمعارف الانسانية التي اكتسبتها الشعوب عبر القرون من تجارب الحياة ومن العادات والممارسات العملية في انتقال غير مادي مستمر من مجتمع إلى آخر بذاكرة جمعية بواسطة الكلمة المنطوقة. ورغم ان المختصين بدراسة التاريخ لم يعترفوا بأهمية التراث الشفوي إلا في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي إلا أن التراث الشفوي ظل وثيق الصلة بالتاريخ وأحداثه لأنه يعد مرآة المرحلة الحضارية والتاريخية لكل مجتمع وأنه يعبر عن أفكار ومعتقدات هذا المجتمع ويصور قدرا غير يسير من النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة فيه وفي علاقاته بالمجتمعات الأخرى مما دفع بعض الباحثين إلى الجزم بأن التاريخ المدون نشأ في أحضان التراث الشفوي. ومما يضفي أهمية على التراث الشفوي وضرورة تدوينه وتوثيقه ، أن الثقافات المعروفة والمدونة كانت في الأصل ثقافات شفهية مثل الإلياذة والأوديسة وغيرها من آثار اليونان والشعوب الأخرى قبل اختراع الكتابة بقرون، وقد حفلت العصور القديمة في المسيحية الأولى بالروايات الشفهية في أسفار الانجيل ، وفي العصور الوسطى الأوربية لم يجد المؤرخون إلا الروايات الشفهية مصدرا لكتاباتهم التاريخية اعتمادا عليها وعلى روايات شهود العيان كما اعتمد المؤرخون العرب والمسلمون المادة الشفهية بشكل واسع واستند قدر من التراث العربي المدون في ميادين علمية كثيرة على التراث الشفوي الذي كان قوامه التداول والرواية ويأتي في مقدمة المؤرخين الذين استفادوا من الرواية والتراث الشفوي في كتاباتهم الطبري والمسعودي وابن خلدون الذين اعتمدوا بشكل كبير على الروايات في مؤلفاتهم المعروفة. وكان للعلماء المسلمين الفضل في وضع قواعد علمية للاستفادة من التراث والمعارف الشفهية فصارت تلك القواعد فيما بعد علوماً مستقلة مثل علوم الإسناد وعلم الرجال وعلم الجرح والتعديل ومصطلح الحديث وغير ذلك. ولقد نشطت حركة الاستفادة من توثيق التراث الشفوي في العصر الحديث في ميدان التاريخ منذ القرن الثاني عشر الميلادي وحتى القرن السادس عشر في أوروبا وأسفر عن مؤلفات قيمة في العديد من المجالات وامتد الاهتمام بالمأثورات الشعبية في ميادين التاريخ الى الولاياتالمتحدة وغيرها وبرزت في حركة علمية تدعو الى اعتماد المأثور الشفوي مصدراً من مصادر التاريخ. وبناء علي الأهمية التي اكتسبها تدوين التراث الشفوي في عالمنا المعاصر يصبح توثيق التراث الشفوي في السودان واحداً من المشروعات الحيوية والاستراتيجية التي يجب أن تضطلع بها مؤسسات البحث العلمي ودور الوثائق ومراكز الدراسات والبحوث باعتبارها ضرورة علمية تمكن من استكمال الحلقات المفقودة في تاريخ هذا الوطن ولفهم حقائق التاريخ التي مرت به وبإنسانه حفاظاً على الذاكرة الجمعية لأهل السودان من الإندثار بمرور الزمن أو طغيان هذا التدفق الكثيف من تراث وثقافات الآخرين بفضل انفتاح المجتمعات البشرية وإنفتاح الفضاء بفعل العولمة وثورة الاتصال والمواصلات. ====