مصر والأزمات الإقليمية    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية: دمج جميع القوات الأخرى لبناء جيش وطني قومي مهني واحد اساسه القوات المسلحة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    أسطورة فرنسا: مبابي سينتقل للدوري السعودي!    ياسيادة الفريق اول البرهان شيل هؤلاء قبل أن يشيلك الطوفان ويشيلنا ويشيل البلد كلها    عقار يلتقي مدير عام وحدة مكافحة العنف ضد المرأة    الداخلية السعودية تبدأ تطبيق عقوبة "الحج دون تصريح" اعتبارًا من 2 يونيو 2024    دورتموند يصعق باريس ويتأهل لنهائي دوري أبطال أوروبا    كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    شاهد بالفيديو.. البرهان يصل من تركيا ويتلقى التعازي في وفاة ابنه    ديمبلي ومبابي على رأس تشكيل باريس أمام دورتموند    محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    نحن قبيل شن قلنا ماقلنا الطير بياكلنا!!؟؟    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءات في تاريخ السودان المعاصر والروايات الشفاهية (3-4) .. بقلم: السفير د. حسن عابدين
نشر في سودانيل يوم 31 - 10 - 2016


الاتجاهات المستقبلية لكتابة التاريخ:
كان التاريخ ومازال أداة من ادوات صناعة الوعي القومي وتنمية مشاعر الانتماء الوطني في جميع الامم التي سعت وتسعى الى الاخذ بأسباب الانصهار والتوحد.وليس في هذا ما يتعارض – كما يظن البعض – مع المنهج العلمي في كتابة التاريخ والذي يبني على تقصي حقائق الماضي بأحداثه وتطوراته واتجاهاته وإيراد التفسيرات لأسباب ونتائج ما حدث. وعلى هذا يمكن – ولا اقول يلزم – قياس اتجاهات الحاضر وربما امعان النظر في المستقبل ولا اراني بحاجة لاستطراد هذا المعنى في كتابة التاريخ بل اخلص الى تأكيد ضرورة البحث في جميع الموضوعات المتصلة بتاريخ السودان من هذه الناحية وفي مقدمتها السير الذاتية لأعلام التاريخ السوداني من السودانيين: قادة الفكر والسياسة والاقتصاد ورواد حركات المقاومة السياسية للاستعمار والاحتلال ودعاة التغيير والإصلاح الاجتماعي والمبدعين في ميادين الشعر والأدب والفنون والتكنولوجيا التقليدية والحديثة....الخ.
ومن ناحية اخرى فقد آن أوان الاهتمام بتاريخ الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية في السودان : روادها ومؤسساتها وقيمها والمؤثرات الوافدة عليها لان في كل ذلك استظهار لحياة الفرد "العادي" – رجل الشارع – ودوره في حركة المجتمع نحو التطور والتقدم وهذا الدور للإنسان "العادي" قد طغى عليه وطمسه في كتابة التاريخ دور الزعماء والحكام والقادة واستأثر التاريخ السياسي – تاريخ مؤسسات الحكم والإدارة والديبلوماسية والحروب والمعارك – بالقدر الاكبر من اهتمام المؤرخين مقابل ما يشبه الاغفال التام للحياة الاجتماعية والثقافية في تفصيلاتها وتعقيداتها. وقد كان كتاب الدكتور عبد المجيد عابدين عن تاريخ الثقافة العربية في السودان خير اسهام ومقدمه في هذا الموضوع الحيوي – الذي يمهد الطريق امام نمط من الدراسات التاريخية المتكاملة المتداخلة التي تجند لها معلومات ومناهج الدراسات الانسانية الاخرى والتي اشرنا اليها.
وللكتابة التاريخية في السودان ان تتجه صوب ميدان ثالث لحقه اغفال نسبي وهو تاريخ اقاليم السودان وأمصاره النائية ومدنه القديمة التي كانت مراكز للتجارة وملتقى طرق ومراكز للعلم والاستنارة مثل حلفا وبربر ودنقلا وسواكن وكوستي و واو وملكال وبانتيو وأم درمان والأبيض والفاشر والجنينة ونيالا وكسلا والقضارف وسنجة ومدني ورفاعة...الخ.
وعن المصادر والمراجع
لقد اضطلعت مؤسساتنا العلمية الوطنية المعنية بشئون ومشكلات البحث العلمي وخاصة في مجال التاريخ بدور رائد في تجميع المصادر وحفظها وإدارتها ومنها دار الوثائق المركزية وجامعة الخرطوم ومصلحة الاثار ونخص بالذكر هنا شعبة ابحاث السودان التي انشئت بالجامعة في مطلع عقد الستينيات ثم معهد الدراسات الافريقية والآسيوية من بعد لاهتمامها بمصدر من مصادر التاريخ تتعاظم اهميته يوماً بعد يوم وهو الروايات الشفاهية التي تنقل وتسجل من السنة وصدور حفظة التاريخ والتراث الشعبي ومن السنة المشاركين في صنع الاحداث والمعاصرين لها..
ان اهمية هذا المصدر تكمن في انه يسد نقصاً وثغرات في المعرفة التاريخية لا سبيل الى سدها من الوثائق المدونة او في غياب هذه الوثائق.
ولقد صار لهذا النوع من مصادر كتابة التاريخ – الروايات الشفاهية – منهج علمي تحقق عبره الوقائع ويستوثق من صحتها من خلال التحليل والمقارنة وقرائن الاحوال والسير الذاتية للرواة وهو منهج في واقع الامر مستمد من منهج البحث التاريخي ولكنه يختلف عنه لاختلاف طبيعة المصدر وخصائصه المميزة. ومن اميز ما كتب عن هذا مؤلف الدكتور عبد الله علي ابراهيم بعنوان Sudan Historiography and oral Tradition
ولاغنى للباحثين في تاريخ المجتمعات السودانية التي لم تعرف الكتابة إلا في العصر الحديث عن الاعتماد على رواة الآداب الشعبية والتاريخ الشفاهي للوصول الى بعض حقائق التاريخ.
الروايات الشفاهية مصدر
لتاريخ السودان الحديث والمعاصر :
المنهجية ونظرات ناقدة ونماذج
لم يعد بين مؤرخي أفريقيا والسودان ثمة اختلاف من بعد ستينات القرن الماضي حول ثراء الروايات الشفاهية والتراث الشفاهي كمصدرين هامين لكتابة التاريخ الحديث والمعاصر مكملين للسجلات المكتوبة والوثائق المرجعية. وكان لموسوعة التاريخ الأفريقي التي أصدرتها منظمة اليونسكو العالمية بدءاً بعام 1964 بعنوان:
General History of Africa
ابلغ النفع وأوقع الأثر في تأكيد أهمية التاريخ الشفاهي نبعاً ومصدراً ينهل منه المؤرخ ويستزيد معرفة بلب الحقيقة التاريخية وجوهرها ولكن دون الارتواء التام. (1)
أورد المجلد الأول للموسوعة وصفاً وتعريفاً للرواية "ولشهادات" الرواة ولمنهج تحقيقها كما جاء في بحث البروفسور يان فانسينا رائد مدرسة التاريخ الأفريقي الشفاهي ومؤلف الكتاب المرجعي في الموضوع:
Oral Traditions: A study in Historical Methodology(2)
وترجمته من الانجليزية: المأثورات الشفاهية: دراسة في المنهجية التاريخية.
إن أهمية الروايات الشفاهية عند تسجيل وكتابة التاريخ وخاصة التاريخ الحديث والمعاصر تتضاعف وتعظم في المجتمعات التي لم تعرف شرائح اجتماعية واسعة فيها القراءة والكتابة فاعتمدت على المشافهة والنقل والإسناد وتداول المعارف والمعلومات شفاهة. وكما وصفها بعض المؤرخين "بحضارات المشافهة" إشارة لمعظم مجتمعات أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى خاصة في العصور الحديثة. من أحداث وتقاليد ومعتقدات وأعراف اجتماعية وقيم وسير ذاتية لرموز المجتمع وقياداته الطبيعية. ولم تخلو كل هذه المنقولات شفاهة من مضمون تاريخي عن الماضي .. لم تخلو من لُب الحقيقة... "The Kernel of truth" كما وصفها الاستاذ فانسيا.
إلا أن هذا لا يعني بطبيعة الحال غياب الرواية الشفاهية في سرد الأحداث والسير في مجتمعات الكلمة المكتوبة التي عرفت القراءة والكتابة والتدوين منذ أقدم العصور.. فما زالت الإشاعة وهي شكل من أشكال الرواية الشفاهية يتناقلها الناس في المجتمعات كافة آناء الليل وأطراف النهار... مازالت سمة مميزة من سمات التواصل الاجتماعي والسياسي المعاصر.
ولا خيار للمؤرخ حين تعوذه المصادر المدونة والكلمة المكتوبة سوى الاعتماد على الرواية لاستنباط واستخلاص ما تحويه من حقائق ومعلومات عن التاريخ وخاصة تاريخ الأزمان القريبة لا الحقب البعيدة. عميقة الآماد لما يصيب الذاكرة الجمعية من ضعف ووهن وما يشوب النقل والتداول الشفاهي من جيل إلى جيل ومن عصر إلى عصر من إضافات مصنوعة دخيلة على النص يستدعي بها الراوي غرضاً ما " في نفس يعقوب".. ولهذا قيل قديماً إن آفة الأخبار رواتها... فيلزم إذن الاستماع إلى أكثر من رواية حول الحدث الواحد أو الواقعة الواحدة ثم عقد المقارنة والمضاهة والمقاربة عن أي الروايات أكثر صدقاً واقرب للحقيقة. ومن نافلة القول أن للمؤرخين أسوة حسنة في منهج رواية الأحاديث النبوية وإسنادها في كتب الإصحاح.
وعود إلى بدء فقد أفردت موسوعة تاريخ أفريقيا العام فصلاً كاملاً في المجلد الأول للمصادر الشفاهية ولمنهج جمعها وتصنيفها وتحقيقها ودراستها ذلك لأهميتها المصدرية في كتابة أو إعادة قراءة تاريخ شعوب القارة وحضاراتها من منظور أفريقي يستصحب علاقة الإنسان ببيئته المحلية الطبيعية والاجتماعية ودينميات (Dynamics) التغيير والتطور الذاتي.. أي النظر في ماضي الشعوب من الداخل قبل وأثناء الاحتلال والاستعمار الأوربي للقارة وبسط الهيمنة الثقافية والسياسية عليها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
إن للروايات الشفاهية اهمية أكثر من مجرد إضافة كمية من الحقائق للمعرفة التاريخية المدونة في وثائق فهي معرفة نوعية تجسد الرؤيا المحلية الشعبية للماضي وللتاريخ وهي مرآة تعكس الوجه الحقيقي للمجتمع المحلي وأنماط السلوك الاجتماعي والثقافي والذي قل ما يجده الباحث والمؤرخ في المدونات والسجلات والتقارير الرسمية.
ومن ناحية أخرى يمكن رد المضمون التاريخي للرواية إلى المدونات الوثائقية يستقي منها الرواة ذرة أو "لب الحقيقة" تضيف إليها وتحذف منها سلسلة الرواة الناقلين المتعاقبين من راوي إلى آخر ومن جيل إلى جيل .. وهكذا يتم التحوير والتلوين وفقاً للغرض الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي فتعلق بالرواية الشوائب والتشوهات ويقع على عاتق الباحث المحقق المدقق عبء وواجب التنقية والفرز للوصول إلى الأصل والجوهر: جوهر الحقيقة ولبها..عن سيرة الأحداث والوقائع والأسباب والدوافع وعن سير الأبطال والزعماء والقادة....الخ
ورفدت زمرة من المؤرخين – سودانيين وأجانب – المكتبة السودانية بدراسات ممتازة عن تاريخ السودان الحديث والمعاصر اعتمدت على الروايات الشفاهية بعد التنقية والتنقيح من البثور والشوائب.. وأشير هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى مؤلفات الأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن عن تاريخ العروبة والإسلام في السودان وتحقيقه لكتاب الطبقات لود ضيف الله (محمد النور بن ضيف الله) في طبعاته العديدة وآخرها الطبعة الخامسة عام 2008 اتكأ ود ضيف الله في جمع مادة هذا السفر العظيم في التاريخ الإسلامي والثقافي لدولة الفونج ومجتمعها لنحو ثلاثمائة عام(1500- 1800) على الروايات الشفاهية عن سير الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء وعن كراماتهم "ومعجزاتهم"...
وقد وصف الأستاذ يوسف فضل الطبعة الثانية للطبقات بان الكتاب.."...مرآة صادقة لحياة السودانيين الدينية الروحية والثقافية والاجتماعية.. وقد سجل المؤلف (ود ضيف الله) ما تواتر من الأخبار واشتهر دون أن يتعرض لها بالنقد والتعليق بل وقف من كل ذلك موقف الراوي الأمين..."
وأضاف الاستاذ يوسف في مقدمته لهذه الطبعة بلسان وقلم المحقق المنهجي: "ليس كل ما ذكره صاحب الطبقات هو صحيح بالضرورة وأما بخصوص تأويل الروايات فإنها.. هي بالفعل مادة خام جيدة وملائمة للتحليل والتأويل والاستنتاج بما يتسق مع المنطق العقلي والمنهج العلمي فالروايات الواردة في الكتاب ثابتة وتأويلنا لها متجدد...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.