المستثمرون الأجانب والوطنيون بدأوا «يطفشون» أي يهربون باحثين عن بيئات استثمارية في دول الجوار القريب أو البعيد. هذه حقيقة يعرفها القاصي والداني ويدرك تفاصيلها المسؤولون عن تدبير الاستثمار في بلادنا. وربما كان هذا هو السبب المباشر إلى لجوء الحكومة إلى تشكيل «المجلس الأعلى للاستثمار» برغم وجود وزارة اتحادية للاستثمار، بدت شبه خاوية خلال زيارتين متتاليتين سجلتها للوزارة بصحبة صديق نهاية الأسبوع الماضي وبدايات الأسبوع الحالي، وبرغم تشكيل هيئات ومفوضيات للاستثمار في كل ولاية من ولايات البلاد. جميل أن يوجه رئيس الجمهورية في لقاء المجلس الأعلى للاستثمار أمس الأول (الاثنين) بمنح الأراضي مجاناً للمستثمرين الجادين، وبتبسيط الإجراءات، وإقرار العمل بالنافذة الواحدة في مفوضيات الاستثمار، مع التأكيد على جدية المستثمرين-وهي جدية لا يعرف أحد حدودها وضوابطها حتى الآن على كل حال. ولكن ما يمكن للمراقب والقارئ أن يلحظه في مجمل المداولات التي دارت في ذلك الاجتماع هو الانصراف إلى النزاعات التي تنشب بين الحكومة وملاك الأراضي -حراً أو حكراً- باعتبارها أحدى معوقات الاستثمار، وتوجه الحكومة إلى «وقف التعويض المادي لأي شخص يستخدم أرضاً حكومية حكراً، وإبدالها، بتقديم مشروعات خدمية للمواطنين في المنطقة». وقد يكون ذلك توجه حميد من حيث المبدأ، لكنه ليس السبب الوحيد أو الجوهري في لجوء بعض المستثمرين للمشروعات الخدمية، عوضاً عن الاستثمار في المشروعات الإنتاجية، صناعة أو زراعة أو ثروة حيوانية كمجالات حيوية وروافع أساسية للاقتصاد الوطني، المهدد بالتراجع والارتباك بعد انفصال الجنوب وخروج «النفط»، المورد الأساسي الذي كان يرفد الخزينة العامة بالعملات الصعبة، بعد أن تراجعت الصادرات الأخرى، القطن والحبوب الزيتية والصمغ وغيرها بسبب الإهمال الذي طال الزراعة خلال العقدين الأخيرين، وبعد أن أصبح البترول وتصديره هو الشغل الشاغل للحكومة. فبالإضافة للإجراءات المعقدة التي تحبط المستثمرين والتي وجه الرئيس بتبسيطها عبر النافذة الموحدة، وهذا ممكن بحزمة من الإجراءات وإعادة النظر في قانون الاستثمار، فإن العقبة الكبرى أمام الاستثمار الصناعي والزراعي تتمثل في مشكلتين، أولاهما هي (الطاقة) التي تحرك الاستثمار، غلاء الكهرباء والوقود. فالكهرباء يصل سعر الكيلواط منها في بلادنا إلى (8) سنتات كاملة، بينما نجدها في دول الجوار - مصر وأثيوبيا مثلاً- لا يزيد سعرها عن (3 أو 4) سنتات للكيلواط، وهذا يعني ببساطة ارتفاع سعر المنتج، خصوصاً في الصناعات التي تستهلك قدراً كبيراً من الطاقة الكهربائية، بحيث يفقد ذلك المنتج فرصة المنافسة في الأسواق الأجنبية (للصادر) أو حتى في الأسواق المحلية، وكذلك هو الحال بالنسبة للوقود. والمدهش أن المجلس الأعلى للاستثمار اجتمع ولم يول قضية الطاقة أي اهتمام ولم تكن محل نقاش بحسب ما طالعنا في مخرجات وتوصيات ذلك الاجتماع الذي حضره كل مسؤولي الاستثمار بالبلاد. ولو فكر من بيدهم الأمر بشيء من الروية لوجدوا أن ما يفقدونه لقاء الكهرباء الرخيصة اليوم سيعوضونه أضعافاً مضاعفة عبر عوائد الاستثمار الكبيرة. أما القضية الثانية، والتي لفت النظر لها الأستاذ عبد الرحيم حمدي وزير المالية الأسبق هي قضية التمويل، فصعوبة الحصول على التمويل من البنوك المحلية تعوق كل صاحب فكرة استثمارية نيِّرة، فليس بالضرورة أن يكون كل مستثمر صاحب «تحويشة مالية» مهولة يريد أن يصرفها على مشروع مُدرٍ للأرباح، فهناك من المستثمرين من يحتاجون تمويلاً للمكون المحلي والأجنبي، ومشروعاتهم على درجة عالية من الجدية والجدوى، بحيث «تبيض ذهباً» لو وجدت طريقها إلى التنفيذ، لكن هؤلاء يجدون أن البنوك ومؤسسات التمويل لا تتعامل إلا مع كبار رجال الأعمال الذين لهم ملايين ومليارات «متلتلة» في حساباتهم لديها، أو مع آخرين يجدون دعماً بحكم علاقاتهم السياسية أو العشائرية مع أصحاب القرار، وهذا قاد بالضرورة إلى حالة احتكار مجحفة ومُخجلة ومُخيفة. لذلك كثيراً ما يُوصي العالمون ببواطن الأمور المبادرين بالأفكار الاستثمارية النيِّرة بأن يبحثوا لهم عن سند له صلة بأهل الحكم، حتى يستطيع تمرير فكرته. وهذا يقودنا إلى عقبة ثالثة، من العقبات المعوقة للاستثمار في بلادنا وهو «انعدام الشفافية»، فانعدام الشفافية يعني الفساد وغياب حكم القانون، كما هو حادث في بعض شركات الاتصال الكبرى، التي سار بذكرها الركبان (سوداتل مثالاً)، وذلك وحده كافياً «لتطفيش» المستثمر الأجنبي الذي يبحث عن بيئة معافاة من الفساد وتحكمها قوانين صارمة وقضاء مستقل يطمئنه على استعادة حقوقه متى ما نشأ خلاف أو وقع اعتداء على أمواله وموجوداته. نعم هناك محفزات مهمة للاستثمار في السودان، وفي مقدمتها وفرة الأراضي الصالحة للزراعة والصناعة مجاناً، كما وجه الرئيس أخيراً، والإعفاءات التي يضمنها القانون للمعدات والماكنات والآليات المطلوبة للمشروع الزراعي والصناعي، والرسوم المحدودة على المواد الخام المستوردة (3%) والضريبة السنوية المحددة ب(10%) على أرباح الأعمال، بعد قرار الوقف بالإعفاءات الكاملة للخمس سنوات الأولى، لكن كل ذلك لا يمكن أن يكون بديلاً أو معوضاً للخسائر والمشكلات التي يمكن أن تواجه أي مشروع استثمار أو مستثمر جاد إذا ما أصرت الحكومة على أسعار الكهرباء والوقود الحالية، وأقرب دليل إلى الأذهان ما تواجههُ مصانع الأسمنت الجديدة في نهر النيل التي أصابها الشلل وتوقفت عن الإنتاج -بحسب «آخر لحظة»- لانعدام وقود الفيرنس، بينما تم حجز الأسمنت المنتج بواسطة وزارة الكهرباء والسدود، ورهن المهندس أحمد علي مدير إدارة الكهرباء بمصنع أسمنت «السلام» بعطبرة حل المشاكل بإسراع الدولة في استيراد وقود الفيرنس وسد الفجوة وتخفيض الرسوم على الأسمنت، وما هذا إلا مثال واحد حي لما يعانيه الاستثمار في بلادنا. كما أن لكم في «مقابر بحري الصناعية» عبرة يا أولي الألباب. خلاصة القول، إنه ليس أمام الحكومة، خصوصاً بعد التاسع من يوليو وخروج معظم موارد النفط من ميزانيتها، سوى الإقبال الجاد على الإصلاح الاقتصادي وخلق بيئة استثمارية جاذبة ومُحفزة، حتى تتمكن من تعويض «فاقد البترول» ويستعيد الاقتصاد عافيته وتوازنه ليجنبها مواجهة الانهيار الاقتصادي ويستوعب الشباب العاطلين عن العمل، وإلا فإن الأزمة الاقتصادية ستتفاقم وتتحول بالتداعي إلى أزمة سياسية، خصوصاً والمشهد السياسي معبأ أصلاً بالعديد من المشكلات والاحتقانات. وكل ذلك يستدعي السرعة في اتخاذ القرارات الضرورية والناجزة، اليوم وليس غداً.