قرابة المائة يموتون معاً.. بين الخرطوم وأم درمان وخلال الفترة ذاتها، فهذا ليس طبيعياً البتة.. ماعسى أن يكون السبب؟.. لابد واحد ممايلي: إما أنه انتحار جماعي، ناجم عن غسيل مخ منظم، أو الدخول في معتقد يقود إلى هذا المصير، وفي هاتين الحالتين لابد من دراسة نفسية اجتماعية وتحقيق جنائي يركز على هذا الجانب بجدية واستفاضة. أو قد يكون مرد ذلك إلى تعمد وسبق إصرار من جهة ما تقصد ما حدث، فوجدت ضالتها في السليسيون الأكثر انتشاراً وسط هذه الفئة المجتمعية (المهمشة) والمهملة بكل معاني الإهمال، فجرى التلاعب في مكونات المادة بحيث أضحت أكثر سمية وفتكاً، وفي هكذا حالة ستكون تلك أكبر جريمة قتل جماعي لدواعي سياسية رخيصة، أو سبب آخر هو أن هيئة المواصفات والجودة وكعادتها في عدم الصرامة، فرطت أو غفلت عن دخول مادة (السبريت) إلى البلاد من أبواب أخرى غير بابها، مما جعل الكميات محل المجزرة تتسرب إلى صدر هؤلاء الصبية بمواصفات تفضي إلى الموت نسبة للتلاعب التجاري بالمكونات الضامنة للسلامة..(بضاعة رخيصة وبس). أو قد لا يكون السبب هو الاسبيرت أصلاً وإنما هو وباء فايروسي له أعراض تشي بهذه المادة أو تزيد من نشاط هذه المادة، فيكون الاسبيرت عاملاً مساعداً فقط. كل ما سبق مطروق، ومفهوم ومتوقع، ولكن ما يهمنا هنا ليس ذلك كله، ولا حتى مشكلة التشرد التي هي ظاهرة معولمة ولا فكاك منها كما يبدو، خاصة في المجتمعات التي في ظروفنا وشروطنا ومن بينها الهجرة من الدول الأخرى، والنزوح من مناطق الحرب والنزاعات وصعوبة العيش في الأرياف، ما يهمنا هاهنا هو ضعف إدارة الدولة للمواد الكيمائية الخطرة، مثل حامض الكبريت (موية النار) ومادة السليسيون وما شابهها من مواد تستخدم للتخدير بالشم أو الشرب أو غير ذلك. المشكلة بالنسبة للجهات الرقابية والأمنية هي أن هذه المواد لها وظائف أخرى مهمة جداً استوردت من أجلها ولا يمكن الاستغناء عنها. سأتوقف هنا عند (لا يمكن الاستغناء عنها) وأحياناً يقولون (لا يمكن تحديد حركتها) بحرية في الأسواق لحاجة الانتاج والعمل اليها، فهل هذا الكلام صحيح تماماً؟ هل صحيح أن سوق الصناعات الصغيرة والورش سوف يتعرض للضرر إذا منعنا استيراد السليسيون أو ما شابهه من مواد مخدرة؟ أليس هناك بديل غير مخدر يؤدي الوظيفة ذاتها، ولو بسعر أعلى قليلاً؟ وأليست هناك بطاريات تعمل بدون(موية النار)؟ أنا عشت في دول الخليج أكثر من عشرين سنة ولا أذكر أنني أضطررت إلى إتمام حامض الكبريت لبطارية سيارتي، فلماذا عندنا هنا يكثر الكلام عن (البطارية ناقصة)؟! هل هي بطارية بمواصفات غير المستخدمة في تلك الدول؟ فهناك أسمعهم يقولون (البطارية تحتاج شارز) أي شحن، فهل هذا الشحن هو إضافة حامض الكبريت؟! أم هو تنشيط أعمدة الرصاص؟. ما أريد قوله هو إن حجم الضرر الاجتماعي والأمني والنفسي جراء إتاحة بعض المواد الكيميائية بطريقة (مطلوقة) هكذا، أمر غير معقول، وينطوي على نوع من عدم تحمل المسؤولية من جانب السلطات الرقابية المعنية. فإذا كان لابد من استيراد ماء النار بهذه الكميات التي تجعله سلاحاً سهلاً وفتاكاً بأيدي المرضى نفسياً والمنحطين أخلاقياً وغيرهم.. فلماذا لا يتم صرفه بروشتة من جانب اختصاصيين على دراية بحاجة المقبلين على شرائه، وبالكمية المحددة حسب الحاجة المعلومة سلفاً، وأما(العادم) أو المستنفد منه فإنه يتعين أن يخضع لنظام رقابي يليق به أيضاً، لأننا نحسب أن المشكلة غالباً في هذا المتبقي أو المستنفد.. فلم لا يتم جمعه بطريقة منظمة تراعي خلالها الشروط البيئية والصحية وشروط السلامة كافة، وذلك تمهيداً للتخلص منه بعناية؟ من قبل الجهات الرسمية؟!. وأما ما يجعلني أركز على المهدر أو المتبقي من هذه المواد فهو أن الشماسة لا يقدرون على تحمل تكاليف تلك المواد بأسعارها الحقيقية، لذا يلجأون إلى المهدر الملقى ضمن نفايات الورش، أو يشترون من صبية الصنايعية البواقي بأسعار زهيدة، أو أن بعضهم يعملون صبية فينالون قسمتهم تلك. والدليل على أن التكلفة تلعب دوراً هو أن ظاهرة شم البنزين قد ضعفت بعد ارتفاع سعره وانخفاض نسبة المواد الطيارة فيه كما أظن. ومن جانب آخر فإنه لابد من سن قوانين تجرم حيازة هذه المواد الكيماوية من جانب غير الاختصاصيين مهنياً، بل وتجريمهم في حال تفريطهم في المحافظة عليها أو اتاحتها في متناول من يريد توجيهها لأغراض غير مصرح بها، وذلك كله لمزيد من الحيطة والحذر ولتضييق الفرص أمام من يقصد سوء استخدام المواد الخطرة. وعموماً فإن غاية ما نصبو اليه هو إما منع استيراد تلك المواد الفتاكة إذا وُجهت إلى غير وجهتها الصحيحة، واستبدالها بمواد لا ضرر محتوم من تلقائها أو طلب تغيير مواصفات ومكونات تلك المواد بما يجهض مظان الضرر فيها. هذا أو التجريم والرقابة بالطريقة ذاتها التي تجرم بها المخدرات وتراقب.