شهدت عاصمة تركيا التاريخية «اسطنبول» خلال الأربع وعشرين ساعة الماضية لقاءين مُهمين، انشغل كلاهما بشؤون وشجون «الربيع العربي» الذي ينتظم العديد من البلدان العربية، منها ما أخرج شطأه ومنها ما لا يزال في طور الازدهار أو التلاقح. اللقاء الأول كان أمس الأول، وأمه أعضاء «مجموعة الاتّصال الدولية» التي تُشارك فيها الولايات المُتّحدة ودول المجموعة الأوروبية وعدد من الدول العربية بالإضافة الى تركيا المستضيفة للمؤتمر والعضو الدائم في حلف الأطلنطي، وكان أبرز المشاركين في مدخلات المؤتمر ومخرجاته وزير خارجيتها أحمد داؤود أوغلو والشيخ عبد الله بن زايد وزير خارجية الإمارات. وشكل المؤتمر نقلة نوعية في تاريخ المجلس الوطني الليبي، إذ أجمعت الدول العديدة التي تشكل «المجموعة» على الاعتراف بالمجلس الوطني ممثلاً شرعياً وحيداً لليبيا، وهذا -كما لاحظ كل المراقبين- يأتي بمثابة انتصار سياسي ودبلوماسي غير مسبوق ومقدمة حقيقية للتغلب على الصعوبات التي ظل يواجهها المجلس خلال الشهور القليلة الماضية بسبب شح التمويل الضروري لمستلزمات الحركة والحياة والصرف على المطلوبات المُلحّة للثورة الليبية من سلاح وعتاد وتموين. وفي المقابل يعني أن العقيد القذافي ونظامه قد ضاقت الحلقة من حوله وتقطّعت به سبل الحراك والمناورة التي كان يقتات عليها وعلى دماء الليبيين طوال الأشهر الماضية، مما جعله يُفكّر - بحسب تصريحات بعض المتحدّثين باسمه- في تفجير طرابلس وتدميرها إذا ما تأكد من انتصار الثورة والثوار، أي أنه سيذهب إلى خيار «الانتحار» الذي كثيراً ما عبّر عنه العقيد. لكننا في هذه «الإضاءة» معنيون بشكل رئيسي بمؤتمر الإنقاذ الوطني السوري، وأهمية هذا المؤتمر الذي كان من المفترض أن ينعقد في وقت متزامن في كل من دمشقواسطنبول، بحيث يضم مؤتمر دمشق الناشطين في الداخل وفعاليات الثورة هناك، ويضم مؤتمر اسطنبول نشطاء الخارج والمعارضين الذين يعيشون في المنافي، إلا أنّه حدث ما كان -أو لم يكن- في الحسبان، حيث هجمت قوات الأمن السوري على مقر المؤتمر الذي كان يجري التحضير له في ضاحية «القابون» في العاصمة السورية فاستشهد وجرح عدد من الذين بدأوا في التحضير لافتتاح «مؤتمر الإنقاذ الوطني» هناك، ما اضطر اللجنة التحضيرية لتأجيل المؤتمر إلى وقت لاحق، وخاطب بعض أعضائها مؤتمر اسطنبول الذي عقد برعاية تحالف منظمات المجتمع المدني التركي، بينهم مشعل التمبو، الذي خاطب المؤتمر عبر اتّصال مُباشر من دمشق عبر الفيديو، وأكد للمؤتمرين الذين يمثلون طيفاً واسعاً من نشطاء المعارضة في الخارج وأكد أنهم في الداخل سيكملون ما بدأوه، لوضع النواة والخطوة الأولى لإيجاد البديل، باعتبارها خطوة ينتظرها الشعب، كما تحدث من دمشق أيضاً عن ما أسماه «وعود الإصلاح الكاذبة» التي جاء الهجوم على مقر المؤتمر في القابون ليؤكد حقيقتها، ولتؤكد أن كل ما يقوله النّظام عن الحوار الوطني والتفاهم على شكل التغيير وأهدافه ما هو إلا ذر للرماد على العيون. ترأس مؤتمر الإنقاذ السوري في اسطنبول المحامي هيثم المالح، الذي قدمه عريف المؤتمر بأنه «شيخ الحقوقيين السوريين»، فشن المالح هجوماً عنيفاً على نظام الأسد، ووصفه بأنّه نظام فاشل وفاشي واستبدادي شمولي سقطت لديه جميع القيم، قيم الحرية والديمقراطية والأخلاق، وسرد لمحة تاريخية عن سلوك النّظام تجاه معارضيه منذ ما عرف ب«ربيع دمشق» في مطلع الثمانينات، وما تعرض له الناشطون الحقوقيون والنقابيون والعلماء من ملاحقات أمنية واعتقالات، وقال إنّه كان بين هؤلاء في وقت بين عامي 1980 و1990، حين ضمت سجون النظام أكثر من 50 ألف معتقل، وحين انطلقت حملة المجازر التي طالت الآلاف في حماة وتدمر وحلب. ثم انتقل ليتحدّث عن الرئيس الحالي بشار الذي خلف أباه في نظام مفترض أنّه نظام «جمهوري» وليس «ملكي وراثي»، وقال إنه حينما عُدّل الدستور خلال «15 دقيقة» في المادة المُتّصلة بعمر الرئيس حتى تتوافق مع عمر بشار ابن الرابعة والثلاثين، وحكى كيف أن بشار وعد فور تسلمه السلطة باحترام الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنه ومنذ أربع سنوات مضت انقلب على ذلك الوعد والعهد وبدأ يتحدث عن «أن الأولوية للأمن وليست للسياسة» وبدأت الاعتقالات لناشطي «ربيع دمشق» حيث أمضى بعضهم فترات حبس تراوحت بين خمس وعشر سنوات، واختصر حديثه الطويل عن الثورة وقمع السلطة للشعب بأن «آل الأسد ينظرون لسوريا كمزرعة خاصة بهم وإلى الشعب كعمال لديهم» وأن «النظام خطف الدولة ونحن نريد استردادها وتحرير شعبنا» مشيراً إلى أن الشعب قدّم في سبيل حريته أكثر من ألفي شهيد وعدداً لا يحصى من الجرحى والمشردين ووضح المالح أنهم مجموعة من الناشطين المعارضين نظموا أنفسهم ووضعوا وثيقة تحمل رؤيتهم «للإنقاذ» دعوا فيها إلى عقد مؤتمر في دمشق ومثله في اسطنبول -لأن هناك العديد من السوريين في الخارج- لكن السلطات هاجمت مساء أمس (الأول) المركز الذي كان من المفترض أن ينعقد فيه المؤتمر، برغم حديث السلطة والرئيس بشار عن «إلغاء حالة الطواريء» التي استبدلوها بما هو أسوأ «المرسوم 55» وما يعرف ب«الضابطة الأمنية» ووصف ذلك بأنّه نوع من الكذب والتدليس والتلفيق. وقال إنّه شيخ كبير «يسير على ضفاف قبره» وكل ما يرجوه أن ينبه إلى أنهم يواجهون واحداً من أعتى وأعنف أنظمة الحكم في العالم، ودعا المؤتمرين أن لا يضيعوا الفرصة وأن يعملوا جميعاً من أجل تدارس الوثيقة -المنتظر وصولها في أي لحظة من دمشق- وأنه يحق لكل المؤتمرين التعليق عليها أو الإضافة لها بما يرون من أجل توفير «البديل» المُتّفق عليه من قبل الجميع. كما تحدّث في المؤتمر عماد الدين رشيد سكرتير المؤتمر، والدكتور برهان الدين غليون الكاتب المعروف والأستاذ بالجامعات الفرنسية وعلي صدر الدين البيانوني المرشد السابق لجماعة الأخوان المسلمين، وأكد غليون أن المؤتمر صرف النظر عن «تشكيل حكومة ظل» كبديل جاهز، وأنه سيكون مؤتمراً لدعم المعارضة واقترح تشكيل لجنة لاستكمال المشاورات مع جميع أطياف المعارضة السورية من أجل «مؤتمر شامل» يجمع كافة التكتلات وتكوين جبهة معارضة موحدة من جميع الأحزاب وتنسيقيات الثورة السياسية أسماها «لجنة المبادرة الوطنية»، أما البيانوني فقد أكّد على مدنية الدولة والتعددية الجامعة لكل الأطياف والرؤى السياسية لأبناء الشعب السوري، وقال إن الذين يتحدّثون عن شتات المعارضة السورية ينسون ما تعرضت له القوة الحيّة في سوريا وما تعرض له شعبنا خلال أكثر من 40 سنة من ملاحقة وتنكيل. أهم ما في مؤتمر الإنقاذ السوري، الذي انعقد في اسطنبول أمس، وهو المؤتمر الثالث من نوعه بعد مؤتمر انطاليا وبروكسل، أنه جاء بمثابة خطوة جادة في سبيل تأسيس بديل للنظام القائم، خصوصاً مع استمرار النظام في نهجه القائم على القتل والترويع، فجمعة الأمس التي شهدت أكبر تظاهرات وأوسعها منذ انطلاقة الثورة السورية سقط خلالها أكثر من ثلاثين قتيلاً، كما أن النظام بدأ يُعاني عزلة دولية وأعلنت العديد من الدول ذات الثقل أنه فقد شرعيته بعد أن أوغل في دماء شعبه، لكن المؤتمر شهد نوعاً من «التريث» -حتى لا نقول التراجع- تمهيداً لإنضاج وبلورة البديل الفعلي، وذلك في سبيل توحيد الرؤى والاتصال بكافة أطراف المعارضة ومنسقيات الثورة في الداخل والخارج، كما أكد جميع المتحدّثين فيه على سلمية الثورة ورفضهم للتدخل الأجنبي عسكرياً، وإن لم يرفضوا الضغط السياسي والدبلوماسي الذي يمكن أن يمارسه المجتمع الدولي على النّظام بحكم المواثيق والعهود الدولية المتصلة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية.