الى عبدالعظيم صالح فى محراب افتتانه بواو ظللت على مدى الاسبوعين الماضيين استعيد لحظات إعلان ميلاد دولة جنوب السودان عبر الفضائيات، وأقلب فكرة الانفصال التي لم تبارح مخيلتي على أوجه شتى، وأجدني غير قادر حتى الآن على تحديد المشاعر التى انتابتني حينها، على نحو عجزت معه عن فرز مواقفي وقناعاتي تجاه حدث بهذا الحجم من القوة والتأثير والتداعيات.. نعم الحدث كان كبيراً واللحظة التاريخية مهيبة ومربكة، تداخل فيها ما هو عاطفي مع ما هو سياسي وفكري، وما هو تاريخي وجغرافي مع ما هو اجتماعي وثقافي ووجداني. لحظة معقدة بكل المقاييس، الشعور فيها بالفرح لميلاد أمة وشعب، يمازجه شعور بالحزن والأسى لبلد تقسم الى دولتين لشعب واحد، دونما حاجة ملحة لذلك. تذكرت حينها الأخ والصديق عبدالعظيم صالح وهو يحدثني عن زيارته الى الجنوب إبان الديمقراطية الثالثة، واستشعرت يومها روعة وجمال واو فى لغته الحالمة التي تفيض عشقاً وافتناناً بهذا الجنوب، ولم استغرب إنه وقع في حب هذه المدينة الاستوائية من أول زيارة، فالمدن مثل النساء، كل يجعل القلب يخفق. اتذكر أنه دار بيننا حوار طويل وكانت واو حاضرة دوماً في حكايات عبدالعظيم بحكم قواسم الغربة والهموم المشتركة، التي جمعتنا في ركن قصي من أركان جزيرة العرب، من بين ما حكى صديقي باسف واسى كيف كان يبدو المواطن الجنوبي مذعوراً ومستلباً أمام (المندوكورو) ببدلته الكاكي، وقلت له كنا نلوم الاستعمار البريطاني على عزله الجنوب بقانون المناطق المقفولة، فجاء من بني جلدتنا من أدخل الى الجنوب قانون المناطق المحروقة، بل دعا أحد ممن كانوا على رأس المؤسسة العسكرية فى يوم الى حرق الجنوب بشراً وشجراً وحجر. تأسيساً على ذلك يبدو إعلان الدولة الجديدة لحظة تاريخية استثنائية يجد فيها الجنوبيون فرصة للنظر الى الماضي في غضب بتعبير جون اوزبورن، ماضي الحروب والحماقات والمظالم التي لحقت بهم بفعل النخب السياسية والحكومات الوطنية، غضب نبيل يعمق لحظة الانعتاق والتحرر من إرث الجراح والالآم والاخفاقات، ليفتح صفحة لآمال عراض بغدٍ أفضل، وقد أشرقت شمس يوم جديد على هذا الجزء من السودان، ولنقل مع نيلسون مانديلا (إن النظر الى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير. عشية الاستقلال لبست جوبا الفرح ثوباً ولوناً وايقاعاً، فرقصت شوارعها حتى الصباح، رأينا أهلها بكل فئاتهم وأجيالهم وقد ذابوا طرباً، وتحرقوا شوقاً لرؤية علم بلادهم يرفرف خفاقاً، نعم فرحوا من قلوبهم ورقصوا متسامين فوق جراحهم، نساء وأطفال غيبت الحروب ازواجهن وآباءهم، كهولاً ورجالاً ناضلوا طويلاً و(هرموا) فى انتظار هذه اللحظة، شباب أضاعوا أحلام الطفولة في أرصفة النزوح والتشرد داخل الوطن الكبير وخارجه، وبهاء اللحظة في كونها رد اعتبار ليس لمن حظوا بمعايشتها لكن أيضاً لمن قضوا على مدى عقود وأجيال على درب الحرية. لا أنكر انني شعرت في المقابل بحالة حزن عميق ليس لما قد تنطوي عليه مسألة الانفصال من تداعيات، لكن ما يحمل على الحزن أن الحفاظ على وحدة السودان كان أمراً ممكناً وممكناً جداً، إذا صدقت النوايا وغلب الحرص على الوحدة التي يفترض انها الخيار الأول والأرجح بحسب اتقافية السلام، كما أن الجنوبيين لم يطلبوا المستحيل لبقائهم فى سودان موحد، وكل الذي اشترطوه دولة مواطنة تساوي بينهم وبين الآخرين فى الحقوق والواجبات، وهو مطلب موضوعي ومنطقي، والمقلق أيضاً أن السلام الذي اقتطعت من أجله ثلث مساحة السودان بات اليوم مهدداً، أن لم يكن فى مهب الريح، بعد أن دقت طبول الحرب من جديد، ومنقو قل لا عاش من يسعى لرفع البندقية مجدداً ...انتهى..